بشار الأسد: التخلي عن الدولة العلوية

TT

لم يزل بشار الأسد يتنقل في خياراته من مرحلة إلى مرحلة أخرى ومن نهج إلى نهج، وإن لم يكن ذلك في كل الخيارات ففي أجزاء مهمة منها؛ إذ يبدو أن الأسد في ظل المتغيرات الكبرى التي يشهدها داخليا وخارجيا بدأ إعادة التفكير في موقفه ومستقبله، وغير شيئا من خططه وأحلامه وأوهامه.

لقد تنقل الأسد في خياراته تجاه ما يجري في سوريا، فاختار الحل العسكري والأمني من أول لحظة واستمر عليه إلى اليوم، ولكن طرأت على هذا الحل وهذا الخيار تطورات ساهمت فيها الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية والداخلية.

فبعد فشل الحل العسكري الأمني في قمع الحراك السلمي، ودفعه للتسلح الذي كان يريده الأسد لتبرير استخدامه القوات المسلحة ضد شعبه، إلا أن السحر انقلب على الساحر، فنشأت مجموعات مسلحة لم تلبث أن اتحدت في الجيش السوري الحر، مما أصبح يهدد كيانه من أساسه، وها هي الأنباء تتوالى عن محاولات حثيثة لجمع الجماعات المسلحة تحت لواء واحد يضمن عدم تشتتها ويقلل من حجم الأضرار اللاحقة التي قد تنشأ عن بعضها.

ثم جاءت مرحلة أخرى بعد تنامي المعارضة المسلحة وزيادة الضغوط الدولية وتصاعد التهديدات، وبعد بداية الانشقاقات العسكرية والسياسية - التي تصاعدت في وقت لاحق وشملت الدوائر المقربة منه - اتجه الأسد في صراعه الدامي لفكرة قديمة هي إقامة دولة علوية في جبال العلويين التي أصبحت تسمى محافظة اللاذقية، فتركزت عملياته ومجازره على السفوح الغربية والشمالية لجبال العلويين بغرض صنع حدود طبيعية لتلك الدولة المرتجاة.

ويبدو اليوم أنه، ومع تفاقم الأزمة، قد تخلى عن وهم الدولة العلوية، وهو ما قد يشير إليه اتجاه الأسد للتركيز على استخدام الطيران الحربي بالمروحيات والطائرات الروسية المقاتلة والصواريخ عن بعد، ولجوؤه للمدفعية الثقيلة وقذائف الدبابات، وتعميمه هذا النهج على كافة الخريطة السورية، وأنه قد اقتنع متأخرا بأن الدولة العلوية مجرد وهم تاريخي وعائلي لا صلة له بالواقع وأن عليه البحث عن مخارج أخرى.

مع كل مناوراته وتنقلاته بين استراتيجية واستراتيجية وتكتيك وتكتيك، فإن الأسد سيرحل لا محالة، فليس أمامه أي طريقة للبقاء، وقصارى أمره أن يظفر قبل النهاية بفرصة للفرار بجلده وعائلته القريبة لمنفى يختاره، ولكنه نجح في أمرين؛ الأول: خلق حالة عميقة من الفوضى العارمة والأحقاد المتقدة ورغبات الانتقام والتشفي، سمحت بدخول تنظيمات العنف الديني، كجماعات أو كأفراد، للقتال داخل سوريا لإقناع دول العالم بأنه إنما يقاتل الإرهابيين وتنظيم القاعدة. الثاني: التأسيس المنهجي لخلق بيئة تنتعش فيها كل بواعث اشتعال حرب أهلية حين تحين ساعة الرحيل.

التأثير الأسوأ والأكثر ضررا جراء رد الفعل المتهور والأحمق ضد الفيلم المسيء للرسول الكريم سينصب على الموقف الدولي تجاه سوريا، وسيصعد التخوفات الدولية من انتشار الفوضى الأصولية على الرقعة السورية، أي على مرمى حجر من إسرائيل، التي مع عداوتها الظاهرة للمشروع الإيراني إلا أنها غير مستعدة لمواجهة عدو أصولي مجهول جديد على جبهة الجولان، وبعد هذه الأحداث فإن الغرب سينصت لها مليا.

اعترفت إيران رسميا بوجود عناصر من الحرس الثوري داخل سوريا، وزعمت أنهم هناك لأغراض ادعتها، والحقيقة التي يعلمها الكثيرون هي أن هذه العناصر العسكرية المدربة التي نجحت من قبل في وأد الثورة الخضراء بإيران - لا عمل لها في سوريا سوى مشاركة نظام الأسد في قتل شعبه وتدمير بلده، لا بخبرتها وخططها فحسب، بل وبالعمل العسكري والأمني المباشر، ومعيب على بعض الدول العربية التي تفتش عن موضع قدم جديدة في توازنات المنطقة كمصر أن تمنح إيران غطاء عربيا في محاولات الأخيرة التدخل في الشؤون العربية، ويبدو أن إيران لم تقتنع بعد بأن عليها تجرع السم مرة ثانية وهو هذه المرة أكبر بكثير من السم الأول الذي تجرعه الخميني.

لقد اضطربت السياسات الأميركية والغربية عموما تجاه ما كان يسمى «الربيع العربي»، وهي بتخاذلها عن دعم الشعب السوري والاتجاه للمزيد من هذا التخاذل تجاه الأوضاع في سوريا إنما تزيد من الدخول في اضطراب الرؤية وتشتت الرأي، ولئن كانت لديها مخاوف محقة تجاه انتشار التطرف الديني المسلح داخل سوريا فإن ما دفع إليه منذ البداية هو هذا التخاذل السياسي الذي سمح له بالوجود ومن ثم التوسع.

إنما قلت إنها مخاوف محقة، لأن البشر حين يقعون تحت ضغوط هائلة واستثنائية يلجأون لإيمانهم ولا يكتفون منه بجوهره المعتدل، بل يذهبون به إلى حدوده المتطرفة، وكلما كانت الضغوط دموية ووحشية وقاسية بما لا يوصف كان الاتجاه للتطرف خيارا أقوى من غيره، ثم إن طول المدة وانسداد الأفق قد تدفع به ليصبح خيارا وحيدا وبلا بديل.

يعرف المراقب للأوضاع هناك أنه بعد عسكرة الحراك السلمي، بدأت المجموعات العسكرية ضد قمع النظام تتخذ أسماء ليس لها علاقة بالمدنية والسلمية، بل علاقتها الأكبر هي مع الأبعاد الدفينة في الأمة حيث الطائفية والإثنية والعنف، وقد تطور الأمر في هذا السياق لجهتين؛ جهة وصول مقاتلين إسلاميين من خارج سوريا، وجهة صعود نبرة خطاب «آخر الزمان» وتطبيق مفرداته على ما يجري على الأرض هناك، بمعنى نقل القتال من بعده المدني والسياسي إلى بعد ديني أخروي عنيف، وقد بدأ الجميع يسمع عن «أكناف بيت المقدس» ونحوها من التعبيرات الدالة والمنتقاة من نصوص آخر الزمان وتطبيقها بشكل عشوائي على أحداث سياسية ومتغيرات تاريخية.

مع تمني العكس، فإن الأوضاع والجو العام داخل سوريا يبدوان مشابهين بشكل كبير لما جرى من قبل في أفغانستان والبوسنة والشيشان، ويبقى الرهان على تحرك دولي أسرع لحسم الأوضاع هناك، وعمل جاد عربيا، وبالتعاون مع شتى القوى السورية الصاعدة، للجم أي تطور في هذا الاتجاه والتخطيط لمواجهته بدءا من الآن وليس من الغد.

أخيرا، لم يتخل الأسد عن وهم الدولة العلوية إلا ليتجه لمزيد تركيز على خيارات أكثر شرا وشررا كخيار شمشون، وكما تحمل «الدابي» وزر خيار الحل الأمني والعسكري، وتحمل «أنان» أوزار وهم الدولة العلوية، فيبدو أن «الإبراهيمي» سيجمع أوزار خيار شمشون.