ثغرات في أداء المعارضة «السياسية» السورية

TT

لا توجد بوادر في الأفق توحي بخلاص السوريين من الحرب المجنونة التي تأكل الأخضر واليابس، في ظل نظام يصر، أكثر من أي وقت مضى، على الاستفادة من الدرس الإيراني في إطفاء وهج «الثورة الخضراء»، والروسي في شنه للحرب على مدينة غروزني في تجييش كل قدراته، لكي يكسب الحرب حتى لو قتل كل السوريين ودمرت البلاد والعباد فقط لأن «الشعب يريد إسقاط النظام».

والحق أن من العوامل المشجعة للنظام على شن حرب على طول البلاد وعرضها: تردد المجتمع الدولي في اتخاذ موقف منسجم مع آفاق الثورة ومآلها، ووضعية المعارضة التي باتت توظف نزف الدم السوري لمآربها الآنية. والمفارقة؛ أنه حتى لو نجح النظام في تدمير المعامل والمصانع، ومنازل الناس، وتحويل حلب وريفها، والمدن الأخرى التي تحتضن الثورة، إلى مدن منكوبة متروكة تحت رحمة التجار والمهربين للتحكم في الأسواق وحياة الناس، فإنه فشل فشلا ذريعا في كسر أو تدمير الروح الحية لدى الناس التي تدفعهم للتغير والإتيان بنظام جديد يحقق الحرية والكرامة لهم.

وثمة من يرى أنه لو استثمرت المعارضة «السياسية» هذه الروح الحماسية لدى جمهور الثورة والثوار بشكل جيد لحقق الثوار إنجازات أكثر أهمية من كل ما سلف، إلا أن المعارضة لم تفعل، وهي بذلك تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، وذلك للأسباب التالية:

- عجزت المعارضة عن استثمار ما يحققه الثوار من إنجازات على الأرض لصالحها، وإعطاء المصداقية لخطابها، فما انفكت تنزلق إلى خانة الفبركة الإعلامية بسبب ضعف في قدرتها على الاستفادة من أي خبر أو سبق صحافي، ولعل خبر انشقاق فاروق الشرع دليل كاف على سطحية الخطاب الإعلامي وحتى السياسي لدى المعارضة، وللأسف، فإن المعارضة السورية ومنذ «ربيع دمشق» لا تقدر على أن تعرف هي بنفسها ماذا يحدث في بلادها وفي دائرة النظام، إنما تلتجئ إلى الصحف الأجنبية وحتى العربية لمعرفة ما يجري في سوريا، والأنكى من ذلك أنها تؤسس خطابها بناء على معلومات وتحليلات هذه الصحف وليس من خلال قراءتها هي للواقع.. بمعنى آخر، بدلا من أن تصبح المعارضة مصدر معلومات للصحف، باتت الصحف والإعلام مصدرا مؤسسا لخطاب المعارضة.

- بقيت المعارضة السياسية بعيدة عن التعامل السلس والبناء مع حالة التعدد والتنوع في مكونات القطاع العسكري للثورة، وتركت مسألة غربلة هذا القطاع العسكري الذي اكتمل عدده من كل حدب وصوب؛ حيث لا يخلو الأمر من أن يوجد من ضمنه الانتهازيون والخارجون عن القانون، الأمر الذي أثار المخاوف لدى الناس العاديين الذين تعاطفوا بضمير حي مع الثورة، ولدى الأطراف العديدة من المجتمع الدولي التي تتخوف من الخلفيات الآيديولوجية والعقائدية لبعض جهات في الجيش الحر أيضا.

- ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما في مؤتمر صحافي قبل أيام: «لا يمكن أن نقبل بسقوط أسلحة كيماوية أو بيولوجية في أيدي من يجب أن لا تكون في أيديهم» يشي بأن ما ذهب الرئيس الأميركي إليه ليس لأن استخدام ووقوع الأسلحة المحرمة دوليا في أيد غير أمينة أو غير مسؤولة يمس المصلحة الجوهرية للأميركان فحسب؛ إنما يظهر بشكل جلي عدم اطمئنانه من تركيبة من يحمل السلاح في سوريا، وهنا تتحمل المعارضة مسؤولية سكوتها أمام تسرب خبر انضمام مقاتلين أجانب إلى الجيش الحر من جهة؛ وعندما سكتت، فإن «السكوت علامة الرضا» في قاموس الفكر الاجتماعي العربي أمام انخراط هذا «المجاهد العربي» في جسم الثورة، مع أن هذا «المجاهد» لا يتعدى عدد الأصابع في كل الجيش الحر، وتقارير الصحافيين الذين تجولوا وأقاموا مع الجيش الحر أدق وأكثر صدقا من التقارير الاستخباراتية التي تعكف على إلهاء الناس بوجود «المقاتلين الأجانب» من جهة أخرى.

- لم تقف المعارضة في حدود «لا حول لها ولا قوة» أمام تشرذمها فحسب؛ إنما وقعت في حالة التنافس والتزاحم السلبي بين هيئاتها ومجالسها، كما لو أن الكعكة باتت جاهزة، وتعاركت وتتعارك حتى اللحظة على «من هو شرعي» في الثورة، ومن يدعم الثورة ومن لا يدعمها، الأمر الذي انعكس سلبا على أدائها، ليس على المستوى الدبلوماسي لدى صناع القرار الدولي فحسب؛ بل حتى على مستوى نشطاء الثورة أنفسهم، وهذا الأمر - شئنا أم أبينا - يؤثر في مزاج جمهور الثورة وحماستهم.

- تشتت الجهات الممولة للثورة، وعدم وجود التنسيق بين هذه الجهات؛ الأمر الذي أوقع المعارضة أمام معضلة أخرى وهي معضلة «التبعية السياسية» للجهات الممولة في الوقت الذي تحتاج فيه المعارضة إلى «استقلالية القرار السياسي».. هذا فضلا عن ظهور اصطفافات في أوساط المعارضة وذلك تبعا لاصطفافات منطلقة من خلفيات الطائفية والعرقية.. الإخوان المسلمون رأوا أن إسطنبول (وليست أنقرة) هي من تجلب رأس الزير سالم، في حين نقل الكُرد ساحة حراكهم السياسي إلى أربيل مع أن مناطقهم شبه آمنة، ولدى الكُرد مقدرة على حماية أنفسهم من أي هجوم، وهذا حال ينطبق على جميع التيارات والكتل المعارضة.. وهلم جرا.

- تسليم المعارضة نفسها لتكون أسيرة للمحاور (الجهات) الداعمة للثورة، وأصبحت اليوم جزءا من المحاور، مع أن وجودها يعني أنها جزء من الثورة وأن تكون فاعلها وقائدها، الأمر الذي جعل الوضع مقلوبا، فبناء علاقات مع الأطراف أمر صحي؛ بل عامل مشجع، إلا أن التورط في تحقيق مصلحة الآخرين على حساب مصلحة الثورة يصنف ضمن «الحماقة السياسية». والحق أن معضلة التبعية السياسية وبناء العلاقات بعيون تحقيق مصالح الآخرين لا بعيون «أين تكمن مصلحة الثورة» بات أمرا مقلقا لجميع السوريين، ولعل السبب، وهو ما أصبح جليا، أن انتهازية بعض الجهات الداعمة للثورة وبشروط؛ مثلا، الأتراك الذين يدعمون الثورة بشرط محاربة «العمال» الكردستاني، لا تقل عن انتهازية بعض المواقف في المجتمع الدولي.

بقي القول إن المعارضة تتحمل مسؤولية كبيرة أمام نجاح الثورة، وإن كان المجتمع الدولي والإقليمي يبحث عن مصالحه أولا؛ إلا أن الوقائع على الأرض تؤكد أن بناء ذاتها وتحسين أدائها يجبر المجتمع الدولي على اتخاذ موقف يرتقي إلى المستوى الذي بلغته الثورة، ولعل استهتار المعارضة السورية، وتنافسها السلبي، إضافة إلى الصراع التناحري (سياسيا)، من أهم العوائق الجدية التي تقف أمام انتصار الثورة على نظام الاستبداد في بلد امتلأت شوارعه بالجثث المتفحمة!!

* كاتب كردي من سوريا