أهل أوسلو.. ندم وعجز

TT

تقويم أهل أوسلو لأوسلو (وكاتب هذه السطور واحد منهم) في الذكرى التاسعة عشرة لتوقيعها.. ينطوي على ندم وعجز.

الندم، على عدم تضمين اتفاق إعلان المبادئ أي بند صريح يتعلق بالاستيطان من زاوية وقفه أو تجميده أو إلغائه.. بل اكتفى بوضعه كبند من بنود المرحلة النهائية، أي أنه خاضع للتفاوض لا أكثر. وندم على الإفراط في التفاؤل والاعتماد على حسن نية الطرف الآخر.

والعجز.. وبالمناسبة فهو عجز مزدوج.. عجز عن إلغائه، وعجز عن الاستمرار فيه.

وقد ظهر هذا المأزق المستحكم واضحا في الاجتماع الأخير للقيادة الفلسطينية الذي ضم 52 شخصية حكومية وفصائلية وأمنية واقتصادية، حيث استغرق الاجتماع يومين دون الخروج بقرارات محددة تتعلق بأوسلو، مع أن مثالب هذا الاتفاق استحوذت على الجزء الأكبر من النقاش.

القيادة الفلسطينية الموسعة أو الضيقة هي ذاتها التي شهدت دون مشاركة تذكر توليد أوسلو، وهي ذاتها ودون نفوذ يذكر تشهد احتضار أوسلو الطويل، بل ووفاته السريرية، مع عدم القدرة على تحرير شهادة الوفاة.

لماذا وصل الفلسطينيون إلى هذا الوضع، أي العجز عن المواصلة والعجز عن التوقف؟!

الجواب بالمعنى النظري.. يمكن أن يستخلصه الباحثون والدارسون عبر مراجعة أحداث فترة التفاوض السري على إعلان المبادئ، وما تلاه من محطات تطبيقية وتفاوضية، وما وقع من أحداث شديدة السخونة على مدى خمس قرن من الزمان. وفي هذا السياق لا بد أن دراسات مهمة قد وضعت وشهادات مهمة قد قيلت، غير أن الأمر يبدو مختلفا جدا حين يحتاج إلى قرارات حاسمة، تتخذها القيادة السياسية، حيث تتراجع الاعتبارات الأكاديمية النظرية أمام ضغوط القوى وأجنداتها، وفي الشأن الفلسطيني نضيف.. أمام الأثمان الصعبة التي يتعين دفعها، سواء كان القرار إلغاء الاتفاق من جانب واحد، أو الاستمرار فيه تحت سيطرة طرف واحد هو في هذه الحالة إسرائيل.

وإلى جانب الأثمان التي ستفرضها إسرائيل حال إقدام الفلسطينيين على إلغاء الاتفاق بقرارات قيادية، أو بتنصل موضوعي غير معلن، فإن ثمنا آخر مطروح الآن، وهو ما أعلنته مصادر الكونغرس الأميركي من عقوبات فوق العقوبات الإسرائيلية، ولا شك أن هذه العقوبات وإن كانت غير لائقة سياسيا وأخلاقيا إلا أنها في زمن الأزمات الفلسطينية المتفجرة، لا بد أن ترهق الفلسطينيين كثيرا، وأن تضعهم في موقف صعب وتحت ضغوط مضاعفة سياسيا واقتصاديا وحتى أمنيا.

إن أي قيادة سياسية تقرأ بقدر معقول من الموضوعية، الأثمان المترتبة على البقاء في دائرة أوسلو أو الخروج منها، لا بد أن تعاني الأمرين حين تفكر في الإقدام على قرار حاسم في هذا الشأن، وخصوصا في هذا الزمن، حيث العالم كله مستغرق في أزماته الخاصة، وهذا ما أدى إلى انحسار ملموس في مساحة دعم الآخرين، وخصوصا حين يكون الدعم عاريا تماما عن أي مبرر سياسي، كاستمرار العمل بأوسلو، أي حين يكون مجرد عمل خيري تحت عنوان.. ماذا نفعل بهؤلاء الجياع والمظلومين حتى الحرمان؟!

وإذا كنا نسلم بحكم التجربة بأن لا حل فلسطينيا خالصا لهذا المأزق المتمادي، ولا حل عربيا جذريا أو دائما، فهنا نجد أنفسنا وجها لوجه أمام حاضنة أوسلو الدولية، وهي الرباعية، وعرابها في أمر التشغيل والتعطيل الولايات المتحدة، فما رؤية هذه الحاضنة لاحتضار أوسلو، وما يحتاج لكي يعود إلى العمل، أو ما البديل وكيف تتم بلورته وضمانات نجاحه بعد الفشل؟ هناك رهانات وكلها تتوقف على خلاصة التطورات الجارية على أرض ما يسمى الربيع العربي، ثم نتائج الانتخابات الأميركية، التي ستليها مباشرة الانتخابات الإسرائيلية، أما الوضع الفلسطيني الذي ينهشه العجز والانقسام وانعدام الخيارات، فهو في واقع الأمر لن يكون مؤثرا في الرهانات المحيطة، بل سيكون متلقيا لخلاصاتها وما ينجم عن هذه الخلاصات من خطوات سياسية، كمبادرة دولية جديدة ربما.

وهذه المبادرة - المفترضة - التي يمكن أن تنطلق من واشنطن أو بتشجيع منها، لن تقوم هذه المرة على أسس أخلاقية، كتلك التي قام عليها خطاب أوباما الإسلامي في بداية عهده، بل ستقوم على أساس الخلاصات الحقيقية لقوى أطراف المعادلة الشرق أوسطية، وكلمة السر في هذا المجال ستكون سوريا، كيف تحسم الأمور فيها، كيف سيكون شكل ومحتوى علاقات الوضع الجديد في سوريا مع إيران ولبنان، ثم مصر، حيث انتظار نتائج الاختبار المعقد الذي وضعته الإدارة الأميركية لحكم «الإخوان المسلمين» الجديد في ذلك البلد المفصلي في أمر الحرب والسلام في الشرق الأوسط؟!

هل ستحمل المبادرة المفترضة عنوان «أوسلو 2»؟ بعد أن وصلت «أوسلو 1» إلى ما دون الصفر، أم أن لدى مقاولي العملية السياسية الشرق أوسطية متسعا من الوقت لتأجيل العمل سنوات إضافية مع الاكتفاء بجهد الحد الأدنى لإدارة أزمة دون الاقتراب من حلها؟!

كل ذلك محتمل في هذا الزمن بما في ذلك «أوسلو 2»، التي ستكتبها غالبا محصلة القوى الناشئة عن الربيع العربي والانتخابات الأميركية والإسرائيلية.