عدوان عنصري باسم حرية التعبير.. ورد فعل مزايد يتجاهل حقوق الإنسان

TT

«لا يمكن أن تكره جذور شجرة من دون أن تكره الشجرة ذاتها»

(مالكوم إكس)

أسبوع ثان مر على انطلاق موجة الاحتجاجات والمظاهرات على امتداد العالم ضد شريط «براءة المسلمين»، الذي لا أحسب أنه بحاجة إلى مزيد من النعوت. غير أن الأسبوع الثاني لم يمر من دون سفاهة أخرى تجسدت في إصرار مطبوعة «شارلي إبدو» الفرنسية على نشر رسوم كاريكاتيرية للرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع إدراكها سلفا ما جرته تجارب مماثلة في الدنمارك والنرويج من قبل. بل إن موقف المطبوعة الفرنسية، التي تصف نفسها بأنها «ساخرة»، جاء خلال أيام قليلة من بدء الاحتجاجات على الشريط الأميركي.

لقد كتب كثيرون خلال الأسبوعين الماضيين عن رد الفعل الشعبي الإسلامي على الشريط الأميركي. بينهم من كتب، وصدق في ما كتبه، أنه ما عاد جائزا تبرير الإصرار على تحدي مشاعر المسلمين على امتداد العالم المرة تلو المرة، بمجرد سوء الفهم أو الخطأ العابر، بل لا بد من الإقرار بوجود جهة تتعمد الاستفزاز والتحريض بغرض الإساءة وتعميق العداء.

وصدق أيضا من قال إن هناك تاريخا طويلا من الحقد والتعصب في تاريخ العلاقات بين الدينيين العالميين الكبيرين الإسلام والمسيحية، وهناك أيضا تاريخ طويل من الحقد والتعصب الذي ساد الجدل الفلسفي والمذهبي، حتى ضمن بيئتي الدينين الكبيرين بين فرقهما الفكرية والفقهية والفلسفية المختلفة، وتجلى في فترات زمنية مختلفة في الرمي بتهم الزندقة والكفر والفساد.. ووصولا إلى الجنون والدجل وانتحال صفات الإلوهية.

وصدق، وأصاب أيضا، مَن أشار إلى وجود مستفيدين من هذه الإساءات المتعمدة في الضفتين المتقابلتين، على أساس أن التطرف لا يقويه ويوفر له المبررات والذرائع إلا التطرف المضاد. وبالتالي، لو لم يكن هذا «الخصم الإلهي» موجودا لوجب إيجاده، وإذا كان قد مات ودُفن لوجب بعثه من جديد.. للمتاجرة به، وبناء شعبية غير مستحقة عبر التغرير بالناس وغسل أدمغتهم.

هنا لا يفوتني بيت من الشعر قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في هجائه الشهير للورد كرومر، عندما قال:

«مَن سب دين محمد فمحمد.. متمكن عند الإله رسولا»..

وهذا كلام واضح وبسيط، وقصدي أن العباد، من أمثالنا، دون الرسل مكانة ومنعة وقربا من الخالق عز وجل. والمسألة لا يجوز أن ينظر إليها على أن هناك جهة «تستضعِف» رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بينما تتوافر لدينا نحن البشر القوة الكفيلة بحمايته والمطلوبة للدفاع عنه.

ثم إنه علينا أن نشير إلى أن المجتمعات الغربية، التي يتصور المواطن المسلم العادي في دول كباكستان والعراق ومصر والمغرب أنها «أسيرة» هاجس الدين ويسيّرها حقا رجال الدين، ليست كذلك إطلاقا.

صحيح أن «اللوبيات الدينية»، مسيحية كانت أم يهودية، موجودة وناشطة، بيد أن الدين في الغرب يجري تسويقه ويُساء استغلاله لغايات سياسية ومصلحية لا علاقة لها بالإيمان، وهذا واقع لا يختلف كثيرا عما حصل ويحصل عندنا في بلاد الشرق. ومثلما هناك متعصبون يكفّرون الآخرين باسم المسيحية، كالقس تيري جونز «حارق المصحف»، هناك جماعات مسيحية عديدة تحترم الأديان وتجلها، وعلى رأسها الإسلام. وبين اليهود هناك عتاة المتعصبين - ومعظمهم من غير المتدينين، بالمناسبة - وفي المقابل توجد جماعات يهودية مسالمة مثل الساتمار والناطوراي كارتا التي تناوئ الصهيونية علنا ولا تؤمن بوجود إسرائيل تؤسسها سلطة زمنية.

ولا حاجة، طبعا، إلى مقارنة تسامح المهاتما غاندي مؤسس الهند الحديثة، أكبر ديمقراطيات العالم، مع تعصب غلاة الهندوسية القومية.. ومنهم المتطرف الذي قتله ناثورام غودسي.

إن ثمة فارقا كبيرا بين «المتدينين» و«المتعصبين». وفي اعتقادي أن الغبار المُثار بفعل الشريط الأميركي والمطبوعة الفرنسية يجب أن ينظر إليه من زاوية «التعصب» لا «التدين». وأرى أنه، هنا بالذات، يصبح التصدي لهذه الظاهرة أسهل بكثير.. سواء في حلبات السياسة أو قاعات المحاكم.

في الغرب قوانين وأنظمة مرعية، يُعمَل بها وتطبق على جميع الناس بلا تفرقة. ونعرف أننا في الشرق أيضا، لفترة من فترات التاريخ الإسلامي، أكرم الله المسلمين برجال عظام تولوا الحكم وتجاوز حس العدالة عندهم فوارق العرق والدين والجنس واللون.

ما يحصل اليوم في حمأة الغضب، بكل بساطة، أمران اثنان:

الأول، تحرك جماعات يمينية عنصرية في الغرب لديها مشروعها السياسي العدواني الصريح. وهي تتستر وراء حق حرية التعبير، المكفول دستوريا، لتسعير العداء العرقي والديني.. ولو كانت تلجأ أحيانا إلى أقنية محسوبة على اليسار أو الفوضويين لبث سمومها.

والثاني، هو اعتبار جماعات في العالم الإسلامي، من السنة والشيعة، أنها وجدت لها فرصة ذهبية لركوب موجة في الغضب العاطفي ومشاعر العداء المكبوتة إزاء قوى تسلط وقهر داخلية وخارجية.

في الديمقراطيات الغربية الحق في حرية التعبير حق تصونه الدساتير وتحميه ثقافة أي شخص يؤمن بالديمقراطية والمجتمع المدني. لكن إثارة العداء العرقي وتأجيج الكراهية لدرجة تهدد الأمن العام والمصلحة العامة شيء آخر مختلف تماما. وثمة نصوص قانونية، في شأن التشهير والقذف والتصرف بطريقة قد ينجم عنها ضرر للأفراد والمصلحة العامة، باستطاعة المرجعيات القانونية التسلح بها في وجه هذا الشكل الجديد من أشكال العنصرية. وباختصار، فإن الازدراء بمعتقدات الآخرين هو في حقيقة الأمر ازدراء بمن يؤمن بها، بصرف النظر عن القبول بهذه المعتقدات أو رفضها. المسألة هي حقا مسألة عنصرية وعدوانية لا علاقة لها بحرية التعبير، ثم إنها حتما لا تخدم المصلحة العامة. وفي اعتقادي المتواضع أن خير ما تفعله الهيئات الإسلامية هو رفع دعاوى قضائية ضمن هذا السياق، بجانب ممارسة الضغط السياسي المدروس والمنظم على حكومات الديمقراطيات الغربية لتوسيع تعريف العنصرية بحيث يشمل تعمد الازدراء بمعتقدات الآخرين.

أما في عالمنا الإسلامي فإن أزمتنا الكبرى تكمن في نظرتنا إلى الإنسان نفسه.. وبالتحديد إلى حقوق الإنسان. نعرف أن للدين مكانة مميزة عندنا، في شتى مذاهبنا، بدليل نسبة الأصوات والتأييد التي تتمتع بها القوى السياسية التي ترفع لواء الإسلام وتتفيأ ظله. ولكن حبذا لو كنا نتقي الله (عز وجل) في عباده، ونفهم ونعتبر أن في الظلم وقتل النفس بغير حق وفساد في الأرض.. مخالفة صريحة للدين.

لا يمكن أن نهب للدفاع عن الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، كما تفعل بعض الفعاليات السياسية في العالم العربي هذه الأيام، بينما تجد الأعذار، بل وتمحض التأييد، لمن يقتل عشرات الألوف من الأبرياء.. المسلمين.

هناك استغلال عنصري خبيث، وهنا استغلال سياسي مكشوف، ولا رد حاسما عليهما إلا بالوعي والمحاسبة المسؤولة.