خدعتك بلادتك!

TT

كان يجلس على بعد طاولتين. ومن تلك المسافة، سألني: من تنتظر؟ صديقا لم أره منذ زمن، وأنت؟ لا أحد. أنا لا أجيء إلى المقهى لانتظار أحد. المقهى وحده ينتظرني. أنا على موعد دائم معه. هنا أبدأ النهار وأبدأ المساء. وأنت؟ قلت له وليس في نيتي أبدا التدخل بينه وبين نفسه: «المقهى ليس جزءا من حياتي. ولا الملل. ألا يتعبك الخمول؟!».

قال: «أي خمول؟! أنا أمضي الوقت في التفكير. ألم تسمع بفلسفة ديكارت: أنا أفكر، إذن أنا موجود؟!». قلت: «بلى. سمعت عنها. كان ديكارت يفكر في الوجود، أنت بماذا تفكر؟». احتد من على بعد طاولتين، وقال هائجا: «أنا أفكر بالبلد. بالمؤامرات التي يتعرض لها. لقد مرت من أمامي هنا الثورة الفلسطينية، وأعطيتها من فكري. ومرت ثورة الجياع، ورميت بنفسي إليها. ومر بي رفاقي في النظرة القومية الشاملة، وألقيت عليهم الأرز والجمل الطويلة. أنا صداح المقاهي ومفكر المظاهرات. أنا مستنكر الخيانة والعمالة. لماذا تنظر إليّ هكذا؟! لماذا تتهكم عليّ؟!».

«معاذ الله. التهكم صناعة المقاهي والعاطلين عن العمل. أنا مجرد عابر هنا وبعد قليل أعود إلى عملي. وليس عندي شرفة أجلس عليها وألعن كل من يمر أمامها. هذه الشرفة مؤذية. تعطيك الشعور بأنك أعلى من سواك، وأنت لا شيء. والارتفاع يمنحك إحساسا بالتفوق، وأنت كائن مسحوق. مجرد غبار من الادعاء والفراغ والعبث. لا شيء سوى العبث. تنتخب نفسك وتصفق لنفسك وتعظم نفسك. هذه ليست دورة حياة، هذه دورة أخرى».

قال: «لست في حاجة إلى نصائحك». قلت: «أنت لست في حاجة إلى نصائح. أنت في حاجة إلى محاكمة. أن تجيب عما فعلته بنفسك طوال هذه السنين. لقد نفثت حولك الغش والهباء والادعاء والكسل والاتكال. وعودت الناس على العادات السيئة كالسخرية والهزء والنّم والكذب. وأفسدت هذا المقعد الذي تجلس عليه. لو حكى لقال لمدير المقهى انقلني إلى المستودع. اطردني إلى مقهى آخر!».

قال من على بعد طاولتين: «ألا تعتقد أنك تقسو عليّ؟!». قلت: «أقل بكثير مما قسوت على نفسك. انظر ماذا فعلت بها. هزء وهباء وحقد. ودرس متواصل في العبث. كرسي على شرفة تحسد عليه الناس وتكره الناس وتتعالى على الناس. بلادة بلا لمعان أو ألق. تعللت بالرصيف وتعللت بالوقت. كم خدعتك بلادتك!».