الجوع العالمي: المشكلة التي تركناها وراءنا

TT

إن الارتفاع المفاجئ في أسعار الذرة نتيجة الجفاف هو رسالة تذكرنا بأننا ما زلنا بعيدين جدا عن حل مشكلة إطعام العالم، حيث إن هذه القفزة في الأسعار، التي تعد ثالث طفرة كبرى في أسعار الغذاء العالمية خلال الأعوام الخمسة الماضية، تثير المزيد من الشكوك حول الافتراض القائل بأن اتساع نطاق النمو الاقتصادي يؤدي إلى مكاسب مماثلة في الزراعة. فقد تباطأت الثورة الخضراء منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين، وصارت زيادة غلة المحاصيل أكثر صعوبة، كما ذكرت في كتابي «خبير اقتصادي يتناول طعام الغداء» (An Economist Gets Lunch)، وهناك بحث أجراه داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في «جامعة هارفارد»، يبين أن تحسين الإنتاجية الزراعية هو من أصعب الأمور في نقلها من بلد إلى آخر. ورغم كل ما تتمتع به الزراعة من أهمية لخير الإنسان وسعادته، فإنها تبدو من القطاعات الاقتصادية المتأخرة في العقدين الماضيين، وهذا يعني أن مشكلة الجوع بدأت تشتعل من جديد، كما حذر البنك الدولي والعديد من الوكالات التابعة للأمم المتحدة في الآونة الأخيرة.

ولننظر إلى أفريقيا، التي كثيرا ما نعتبر أنها قد تخلصت من مشكلاتها وبدأت تتجه نحو نمو مطرد، فرغم أن تزايد حجم الطبقة الوسطى في أفريقيا وتراجع معدلات الوفيات بين الأطفال حقيقيان جدا، فإن مظاهر هذا التقدم لم تكن متوازنة، حيث ظلت الزراعة تقبع في المؤخرة. وفي خطاب ألقاه مؤخرا مايكل ليبتون، وهو خبير اقتصادي وأستاذ باحث في جامعة «ساسكس» البريطانية، قدم الرجل نظرة واقعية رصينة عن الإنتاجية الزراعية في أفريقيا، وذكر أن رواندا وغانا تحققان مكاسب، إلا أن معظم بلدان القارة ليست كذلك، ولا يبدو أن معدلات الإنتاج واستهلاك السعرات الحرارية للفرد اليوم أعلى مما كانت عليه في أوائل الستينات من القرن العشرين، وما زالت هناك مشكلة في كيفية إطعام الأعداد المتزايدة من السكان في أفريقيا.

وإحدى المشكلات الضخمة القائمة أن سعر السماد في أفريقيا غالبا ما يكون أعلى مرتين إلى أربع مرات من السعر العالمي، إلا أن التربة وسقوط الأمطار في أفريقيا يجعلان معظم أجزاء القارة دون المتوسط في النمو الغذائي، وبعبارة أخرى فإن المنطقة التي ربما تكون الأكثر احتياجا إلى السماد عليها أيضا أن تدفع أعلى سعر للحصول عليه، ومعظم أجزاء أفريقيا ليس لديها من الرخاء ما يجعل هذا أمرا يسيرا، حيث إن ارتفاع الأسعار يؤدي إلى أن يصبح جزء كبير من البنية التحتية والشبكات التجارية غير متطور بما يكفي لخلق سوق تنافسية ومنخفضة التكلفة، وقد تزداد المشكلة سوءا إذا تسببت المتاعب الاقتصادية التي تشهدها الصين في إلهائها عن استثماراتها المربحة في الطرق والموانئ الأفريقية. وفوق كل ذلك، فإن الكثير من الدول الأفريقية تنتهج سياسات غير بناءة تجاه الزراعة، فمالاوي مثلا تفرض على الذرة قيودا في ما يتعلق بالتصدير والاستيراد الدوري، بالإضافة إلى ضوابط خاصة بالأسعار، وكل هذا يعوق إيجاد سوق تعمل بصورة فعالة، وعندما يقوم مضاربو السوق بادخار الذرة ترقبا لزيادة ندرتها، فربما يتعرضون لعقوبات بحكم القانون.

وهذه القيود المفروضة على محفزات السوق تؤدي إلى تفاقم المشكلات الأساسية المتعلقة بالعرض، كما أن هذه العقبات تشكل تحديا أمام مستقبل الاقتصادات الأفريقية. وبالمقارنة فإن التوسعات السريعة في النمو الاقتصادي في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان سبقها جميعا تقدم كبير في الإنتاجية الزراعية، حيث إن ارتفاع الغلة في هذه البلدان أوجد فائضا محليا من أجل المدخرات والاستثمار، وشجع إنشاء المشروعات الصغيرة، وعزز من الإحساس بالأمن الاقتصادي، وساعد على اتساع الطبقة الوسطى. وعلى النقيض، فإن النمو في معظم بلدان أفريقيا يأتي من الثروات الطبيعية - مثل النفط والماس والذهب والمعادن الاستراتيجية - ومن المعروف أن أسعار الموارد الطبيعية متقلبة لسوء الحظ، كما أن هذه الثروات الطبيعية تكون أقل ملاءمة لدعم ديمقراطيات قابلة للاستمرار، لأنها ترتبط في الغالب بامتيازات ممنوحة من الدولة وغيرها من الكيانات المحصنة ضد القانون. والحكومة النرويجية مثلا تدير ثرواتها النفطية بصورة جيدة، أما النظم الاستبدادية والديمقراطيات الوليدة فإنها تكون أكثر عرضة للتلوث بالفساد.

وهناك الكثير من الكتابات التي تؤيد اتباع المزيد من الطرق العضوية في الزراعة، سواء في البلدان المتقدمة أو النامية، وهذه الآراء تدرك أن طرق الزراعة الحالية تجلب مشكلات بيئية خطيرة تتعلق بالموارد المائية ومخلفات الأسمدة واستعمال الطاقة. إلا أن الزراعة العضوية عادة ما تدر غلة أقل بنسبة 5 إلى 34 في المائة، كما تشير التقديرات الواردة في دراسة حديثة نشرت في مجلة «نيتشر» العلمية، على حسب المحصول والسياق العام. ورغم كل ما تتسم به الأساليب العضوية من مزايا، فمن الصعب تصور كيف يمكن البدء في حل المشكلات الغذائية العالمية بخفض الغلة الزراعية، والأصوات التي تعلو في هذا الشأن غالبا ما تكون قائمة على التفكير بالأمنيات وليس على إحساس بما هو عملي وواقعي.

إذن ماذا نفعل؟ أولا، لا بد من إعطاء أولوية أكبر للمشكلات الغذائية في جدول أعمالنا، ففي الولايات المتحدة لا يوجد شعور عام بالحالة المحفوفة بالمخاطر التي آلت إليها الزراعة العالمية، وحتى في مهنة الاقتصاد فإن علم الاقتصاد الزراعي غالبا ما ينظر إليه على أنه ذو مرتبة ثانوية.

ثانيا، ينبغي أن تتوقف الحكومة الأميركية عن تقديم دعم مالي لإنتاج الوقود الحيوي المستمد من الذرة، خاصة غاز الإيثانول، ذلك أن نحو 40 في المائة من الذرة غير المخصصة للاستعمال كطعام للإنسان في أميركا تذهب إلى إنتاج الوقود الحيوي، بفضل الدعم المالي الحكومي والسياسة التنظيمية التي تم اعتمادها عام 2005، ويستنكر الخبراء بإجماع كامل هذا الدعم المالي ويرون أنه يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والاستعمال الضار للأرض واستنزاف أموال دافعي الضرائب. وبعد وضع تكاليف الطاقة اللازمة لإنتاج الوقود الحيوي في الاعتبار، فإنه لا يبدو حتى أن هذه السياسة تساعد على إبطاء التغيرات المناخية، بل لقد تحولت إلى شكل من أشكال الرأسمالية المبتذلة، التي ستجعل العالم يدفع ثمنا باهظا.

واليوم يوجد لدينا مرشحان رئاسيان يبدو كل منهما قصير النظر قليلا في ما يتعلق بالرؤية الشاملة والتغيير الجذري، وربما يكون في مقدورهما أن ينظرا إلى تقديم يد العون لحل المشكلة الغذائية - وتحقيق انخفاض كبير في الجوع العالمي - على أنه الإرث المفيد القادم لأميركا، فالعالم لم يصل بعد إلى ذلك الوضع السعيد الذي يكون فيه السؤال «ماذا نأكل على العشاء؟» سؤالا مملا.

* أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسون