ما وراء نجاح مصرف «غولدمان ساكس»

TT

لم يمض وقت طويل منذ أن كان مصرف «غولدمان ساكس» يصور على أنه الشخصية الشريرة المتضخمة في الأزمة المالية، وكان يبدو أن مستقبله يحيط به الغموض، أما اليوم فقد حافظ المصرف الاستثماري على عملائه وعلى هيمنته، ووضعته العثرات الأخيرة التي تعرض لها منافسوه في موقع متقدم لتحقيق أرباح عندما يأتي التعافي الاقتصادي.

لكن التعافي الاقتصادي لم يأت بعد؛ حيث يمر نشاط الصيرفة الاستثمارية بحالة مزرية، وطبقا لبيانات شركة «ديلوجيك»، فقد شهدت الإيرادات العالمية لصناعة الصيرفة الاستثمارية تراجعا بنسبة 26 في المائة خلال النصف الأول من عام 2012، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ويعاني مصرف «غولدمان ساكس» هو الآخر من هذا الركود، لكنه حافظ على تفوقه في مجال الصيرفة الاستثمارية؛ حيث تبين شركة «ديلوجيك» أنه جاء في المركز الثالث بين المصارف في تصنيفات أسواق رأس المال حسب القيمة السوقية للأسهم خلال النصف الأول من عام 2012. وفي التصنيفات الخاصة بالمشورة العالمية فيما يتعلق بعمليات الاندماج والاستحواذ، جاء مصرف «غولدمان ساكس» في المركز الأول سواء في الولايات المتحدة أو على مستوى العالم. وبشكل عام، فقد سجلت المؤسسة المصرفية إيرادات من الصيرفة الاستثمارية بلغت 1.7 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2012، لتأتي في المركز الثالث في التصنيفات العالمية. ويعد هذا إنجازا رائعا بالنظر إلى أن المؤسسة لا تمتلك نفس القدرة الإقراضية التي يتمتع بها مصرف «جي بي مورغان تشيس»، الذي جاء في المركز الأول في التصنيفات العالمية، أو مصرف «بنك أوف أميركا ميريل لينش»، الذي يليه في الترتيب. وفيما يتعلق بالمبيعات والتداول، وهما المصدر الرئيسي لإيرادات المصارف في المعتاد، سجل قطاع خدمات العملاء المؤسسيين في مصرف «غولدمان ساكس» صافي إيرادات بلغ 9.6 مليار دولار خلال النصف الأول من هذا العام، بانخفاض قدره 5 في المائة عن العام السابق، في مقابل مصرف «مورغان ستانلي» الذي بلغت إيراداته من المبيعات والتداول 4.4 مليار دولار، بانخفاض يتجاوز 32 في المائة.

وهذه الأرقام تبين أن العملاء لم يهربوا من مصرف «غولدمان ساكس» على الرغم من الأصوات التي تقول بأنه كان يعمل ضد عملائه عن طريق حرق الأسعار في أسواق الإسكان، كما أن بعض منافسيه أجروا تغييرات أو تعرضوا لعثرات بطريقة سوف تفيده في المستقبل. على سبيل المثال، فقد تعرض مصرف «جي بي مورغان» لخسائر تداول بالمليارات تسببت فيها الوحدة التابعة لرئيسه الاستثماري، واضطر الرئيس التنفيذي للمصرف جيمي ديمون إلى مواجهة احتمال تشديد الرقابة من قبل الجهات التنظيمية. وهناك منافس كبير آخر هو مصرف «باركليز»، الذي تعرض لأزمة بسبب فضيحة تلاعب في أسعار الصرف أجبرته على إحداث ثورة داخل إدارته العليا، وهو الآخر سيواجه رقابة تنظيمية أكثر صرامة، ناهيك عن المقاضاة أمام المحاكم. وما زال مصرف «سيتي غروب» يدرس ما إذا كان يريد أن يكون مصرفا استهلاكيا أم استثماريا أم شيئا بين هذا وذاك، في ظل محاولاته لإحداث تغيير داخلي شامل، إلا أنه من الواضح أن المصرف لم تعد لديه طموحات أن يصبح السوبر ماركت العالمي الذي كان رئيسه التنفيذي السابق ستانفورد ويل يأمل في أن يصل إليه، وما زال من غير المعروف، حتى بالنسبة لمسؤولي المصرف على الأرجح، أين بالضبط يصلح قسم الصيرفة الاستثمارية لوضعه في هذه الأحجية؟

وقد كانت الرؤية في أواخر التسعينات من القرن العشرين، هي أن المصرف يمكنه تقديم كل من الخدمات التجارية وخدمات الصيرفة الاستثمارية، وأنه يستطيع تعزيز قدرته على إقراض مليارات الدولارات من أجل زيادة نشاطه في مجال الصيرفة الاستثمارية. وتدل المتاعب التي تعرضت لها المصارف الكبيرة مؤخرا على أن هذا الحلم قد ولى ومضى، فأي فوائد ستعود من الجمع بين العمل كمقرض تجاري ومصرف استثماري تغطي عليها العقبات التنظيمية الهائلة؛ حيث إن جيش المسؤولين التنظيميين ومراقبي الامتثال اللازم للإشراف على عمليات هذه المصارف يمثل استنزافا متزايدا لقدرتها على تحقيق أرباح.

وفي خضم الاضطراب الذي أعقب الأزمة المالية، شكل مصرف «غولدمان ساكس» لجنة للمعايير التجارية من أجل فحص الممارسات المتبعة والتوصية ببعض التغييرات، وقد قدمت هذه اللجنة 39 توصية لتحسين مستوى الحوكمة والعلاقات مع العملاء، وتجاوبا مع هذا قامت المؤسسة بإعادة تنظيم قطاعات النشاط التجاري بها بصورة جوهرية، وإجراء إعادة هيكلة كاملة داخل مجلس الإدارة، ومراجعة استراتيجية العلاقات العامة بها، ووضع سياسات أقوى لمحاسبة المسؤولين بها ماليا. كما بذلت المؤسسة قصارى جهدها لتجاوز مزاعم الأزمة المالية؛ حيث أنفقت 550 مليون دولار لتسوية اتهامات وجهتها لها «لجنة الأوراق المالية والبورصة الأميركية» بخداع المستثمرين فيما يتعلق بواحدة من الأوراق المالية المضمونة برهن عقاري. وقد أعلنت وزارة العدل مؤخرا أنها لن تباشر الاتهامات المتعلقة بإقدام مصرف «غولدمان ساكس» على حرق الأسعار في سوق الإسكان عند البيع إلى عملاء كانوا يراهنون على العكس.

كما أجبرت الأزمة المالية مصرف «مورغان ستانلي»، المنافس الأول القديم لمصرف «غولدمان ساكس» في الصيرفة الاستثمارية، على تغيير نموذجه التجاري جذريا؛ حيث عانى المصرف من تضاؤل حجم قاعدة رأس المال لديه وعدم تنويع النشاط التجاري. ومن أجل حل هذه المشكلة، توصل المصرف مؤخرا إلى اتفاق للاستحواذ على عمليات شركة الوساطة «سميث بارني» بالكامل، إلا أن ذلك يعني أن المصرف قد يتحول إلى مدير أصول أكثر من كونه مصرفا استثماريا. كما أنه من المستبعد أن يكون الجدل الدائر حول الطرح العام الأولي لأسهم شركة «فيس بوك» قد أفاد مصرف «مورغان ستانلي»، الذي قاد عملية الطرح في البورصة وكان يتنافس مع مصرف «غولدمان ساكس» على ضمان تغطية الاكتتاب في الطرح العام الأولي لأسهم شركات تكنولوجية ناجحة أخرى.

ونتيجة لهذا، فقد بدأ مصرف «غولدمان ساكس» يتحول إلى آخر مصرف استثماري كبير متخصص في مجال معين. وفي عالم يروج فيه المستشارون التجاريون لضرورة التركيز على أفضل مجالات النشاط التجاري لديك من أجل تحقيق النجاح، فإن مصرف «غولدمان ساكس» سوف تكون لديه في الغالب ميزة تفوق على المجموعات المصرفية الأخرى. فبدلا من التنويع، يتخذ المصرف خطوات للمحافظة على محور تركيزه؛ حيث لم يقم ببيع ذراع الأسهم الخاصة التابع له وهو شركة «جي سي كابيتال بارتنرز» من أجل الالتزام بـ«قاعدة فولكر»، بل احتفظ بهذه الشركة بداخله عن طريق تمويلها من خلال أموال خارجية وليس من أموال المصرف نفسه. وقد احتفظت مصارف أخرى بأذرع الأسهم الخاصة التابعة لها أيضا، لكن ذراع الأسهم الخاصة التابع لمصرف «غولدمان ساكس» كان دوما الأكبر حجما، كما أن المصرف واجه أكبر قدر من الضغوط لبيعه. وسوف يؤدي الاحتفاظ بشركة «جي سي كابيتال بارتنرز» إلى المحافظة على تفوق المؤسسة في لعب دور في صفقات الاستحواذ.

ولكن مع ذلك، فإنها لن تكون مهمة سهلة بالنسبة للمصرف؛ حيث سيظل المصرف نقطة حرجة وسيظل يوصف بأنه رمز للأزمة المالية وللجشع بشكل عام. وعلاوة على ذلك، فإن غريغ سميث، الموظف السابق في مصرف «غولدمان ساكس» الذي استقال علنا من خلال مقال رأي كتبه في صحيفة «نيويورك تايمز»، سوف ينشر مذكراته هذا الخريف تحت عنوان «لماذا غادرت مصرف غولدمان ساكس». وربما يؤدي هذا إلى دخول مصرف «غولدمان ساكس» مرة أخرى في وضع السيطرة على الأضرار. ولكن إذا كان عملاء المؤسسة لم يغادروا بالفعل، فلماذا سيفعلون الآن؟ لقد صار مصرف «غولدمان ساكس» اليوم أكثر تنظيما مما كان عليه قبل الأزمة المالية، إلا أنه يبدو كما لو كان لن يواجه دعاوى قضائية بسبب أي من أنشطته، كما أن منافسيه يتعرضون لمزيد من المشكلات مع الجهات التنظيمية. وبالتالي فمن المستبعد أن يغير كتاب سميث أي شيء. وتتفق البورصة مع هذا؛ حيث ارتفع سعر سهم «غولدمان ساكس» بنسبة نحو 25 في المائة هذا العام، متفوقا على أسهم «جي بي مورغان» و«مورغان ستانلي» و«سيتي غروب».

وربما تكون الصيرفة الاستثمارية في تراجع، لكنها سوف تعود في النهاية، والقصة المبهرة سوف تكون أن مصرف «غولدمان ساكس»، على الرغم من النزاعات التي واجهها، وضع نفسه في وضع لا يسمح له بتحقيق أرباح فحسب، بل ومواصلة هيمنته أيضا. إنه بمثابة دراسة حالة في النجاة التجارية وإصلاح السمعة، وهو أمر لن يسعد المحتجين في حركة «احتلوا وول ستريت»، ولكنه لن يسعد كذلك منافسي مصرف «غولدمان ساكس».

* أستاذ القانون المالي

في جامعة أوهايو

* خدمة «نيويورك تايمز»