وصفة مرسي: وداوني بالتي كانت هي الداء!

TT

لا يتوفى المصري، إذا لم يُنشر نعيه في «الأهرام». منذ «أهرام» هيكل الستينات، لم يعد العرب يقرأون الصحف المصرية. والمصريون أصلا لا يقرأون الصحف العربية. فهي عندهم سياسة «سكر زيادة».

اليوم، هناك انقلاب في الصحافة المصرية، أو على الأقل، في الصحف الرسمية التي يسمونها (قومية). منذ أن جاء مجلس الشورى (الإخواني) برؤساء تحرير جدد لهذه الصحف، فهي مليئة بالأخبار والتطورات العربية الساخنة. تمسك بـ«الأهرام» مثلا، فترى صورة الأطفال السوريين الذين ذبحهم نظام بشار، تتصدر الصفحة الأولى.

هذا الاهتمام المصري بالعرب ظاهرة جيدة. ومشكورة. فمصر أم العرب، منذ أن فتحها. وعربها. وأسلمها، عمرو بن العاص عبقري الاستراتيجية العربية. ولا شك أن هذه الظاهرة انعكاس لموقف الرئيس الشيخ محمد مرسي الذي أعلن في قمة عدم الانحياز بطهران، أن بشار «نظام ظالم» للسوريين.

دقة على الحافر. ودقة على المسمار. قال العرب إن مصر أعادت اكتشاف العرب. المتفائلون جدا قالوا إن «ناصرا» جديدا ولد في مصر. لكن الدقة على الحافر الإيراني، ما لبث أن تبعها مسمار في الرأس العربي.

فقد دعا الشيخ مرسي إيران إلى المشاركة في البحث عن «تسوية سياسية» في سوريا! بحيث لا يموت «الذئب» هناك. ولا يفنى «الغنم» الذين يموتون بالجملة، بصواريخ طيران حليف إيران. ويبدو أن العجلة المتسرعة حرمت مرسي من استشارة الدول المدعوة سلفا (السعودية. تركيا. إيران) والثوار السوريين.

عربة (الدفع الرباعي) المصري التي جرتها إيران بحماسة، تعطلت في أول الطريق. لم يصدر في نهاية اللقاء، ما يؤكد نجاح المؤتمر أو فشله. لم يعرف العرب ما دار. الأدب الدبلوماسي السعودي فرض صمتا مهذبا على الموقف السعودي. الصحف المصرية (القومية) قالت إن السعودية حضرت. ثم تبين أن السعودية غابت عن الاجتماع الأخير. ثم تناقض الموقف المصري مع نفسه، عندما أعلن محمد كامل عمرو وزير الخارجية أن مصر أبلغت السعودية نتائج المؤتمر.

من كان المستفيد من المؤتمر العجيب؟ إيران بالطبع. فقد خرج تدخلها من السر المفضوح إلى العلن المكشوف، متسلحة بالمشروعية التي تعتقد أن المؤتمر منحها حق المشاركة في صميم قضايا الأمن القومي العربي! بعد المؤتمر، تسارع تدفق الدعم اللوجيستي التقني الإيراني، بأجهزة التنصت على الهاتف والإنترنت. اعتقل. وعذب. وقتل مدونون سوريون. رصدت طائرات (درون) ذات الصنع الروسي مواقع الثوار. فقصفتها طائرات بشار النفاثة والمروحية.

خلال المؤتمر وبعده، أعلنت إيران عن إيفاد قيادات عسكرية وميليشياوية لتقديم «النصح والمشورة» لبشار وحسن حزب الله. لولا ضيق المجال لعددت أسماء ضباط إيرانيين زائرين ومقيمين. على المستوى السياسي، نشطت الدبلوماسية الإيرانية. طالب وزير الخارجية علي صالحي بإرسال مراقبين (بينهم إيرانيون) لإسناد «فن» المبعوث الجزائري الأخضر الإبراهيمي، في إطالة الأزمة، خدمة لنظام بشار، بعدما قذفه السوريون اللاجئون في مخيم الزعتري الأردني، بالحجارة. أما سعيد جليلي مستشار خامنئي، فقد أعلن أن بشار وحسن حزب الله سيقاتلان إسرائيل فور مهاجمتها مواقع إيران النووية.

طالبت إيران بضم العراق إلى جانبها، في لجنة مرسي الرباعية. على هذا الأساس، تم تحويل عراق نوري المالكي إلى رقبة جسر جوي/ بري، تتدفق عليه الشحنات الإيرانية من بشر وسلاح، لدعم بشار والقتال معه. ويحاول المالكي «ضبط» عشائر السنة العراقية، لمنعها من نجدة شقيقاتها عشائر السنة السورية.

لا أشك في براءة «ثلاثية» الشيخ مرسي الإخوانية. الوطنية. العروبية. لكن لماذا تورط في ربط الحصان الإيراني داخل بيت «الخزف» السوري؟ الجواب يطول. مبدئيا، أقول إن مصر لا تعرف عن المشرق العربي، أكثر مما أعرف أنا عن اليابان! السبب أن السياسة في دول المشرق العربي شديدة العمق والتعقيد، فيما السياسة، في مصر، ممارسة براغماتية سهلة. بسيطة. المشرق يعتبر الصراع مع إسرائيل مصيريا. مصر السادات اعتبرته سياسيا: نخاصم إسرائيل اليوم. نصالحها غدا.

وهكذا أيضا، فالثورة السورية تدافع عن هوية العرب القومية، أمام الاختراق الإيراني، وتناضل لإسقاط نظام ربط السوريين بالتبعية لنظام أجنبي. طائفي. معاد ليس فقط لعروبة سوريا، وإنما للإسلام السني الخليجي والمشرقي، فيما تداوي صيدلية الشيخ مرسي السوريين بالتي كانت هي الداء، بالإبر الإيرانية. وتنسى أن أية تسوية مع نظام بشار، ستشكل خطرا مصيريا على هوية العرب القومية في الخليج والمشرق.

أترك التورط المصري في خلط العرب بالعجم، لأتطرق إلى خطأ آخر يبدو مريعا، لا ترتكبه الإخوانية المصرية فحسب، وإنما تقدم عليه دول. وساسة. ودبلوماسيون. ومفكرون. وفقهاء عرب ومسلمون. أعني هذه الدعوة الملحة لسن وتشريع معاهدة دولية لحماية الأديان، من الإساءات والحملات المعادية.

المعاهدة المنشودة سلاح ذو حدين: متن إيجابي يحمي الأديان. ومتن سلبي مضاد يسيء إليها! المعاهدة ستمنح البدع. والمذاهب، الشرعية الدولية، للادعاء بأنها هي أيضا أديان تجب حمايتها. واحترام «قداستها». والاعتراف بأنبيائها. وأوليائها، متسلحة بحقوق الإنسان في حرية الرأي. والتعبير. والاعتقاد. بل ستمنح المعاهدة تنظيمات العنف الديني، «الحق» في حماية تفسيرها الضيق والمتزمت للدين، فيما يخوض النظامان العالمي والعربي معركة فاصلة ضد «الإرهاب الديني».

من التداعيات لشرعنة إشراك إيران في القرار الأمني العربي، خروج بشار منتشيا، بعد لقائه الوزير صالحي، ليدافع عن قيادة إيران لحلف «الممانعة والمقاومة» لإسرائيل. لا داعي للرد. فخرافة الممانعة انهارت بعد أربعين سنة، لم يطلق فيها نظام الأب والابن رصاصة على الاحتلال الإسرائيلي للجولان. بات على كل سوري أو عربي يريد زيارة الجولان، أن يحصل على تأشيرة دخول «فيزا» من مخفر الحراسة العلوي!

أما عن اتهام السعودية والدول الخليجية بالمسؤولية عن حرب النكسة (1967)، فأمام بشار أن يلوذ بالصمت. أو أن يملك الجرأة ليعترف بمسؤولية النظام العلوي، عن توريط مصر عبد الناصر في حرب، لم يحسن نظام صلاح جديد، ووزير دفاعه (حافظ الأسد) قيادتها على الجبهة السورية. فجاءت النتيجة الخاسرة، بمثابة تسليم إسرائيل الجولان. وهناك قيادات عسكرية ومدنية سورية تحدثت، ومستعدة للتحدث، عن «خيانة» حدثت في الحرب.

قلت إن بساطة التفكير السياسي والاستراتيجي المصري غير قادرة، على فهم تعقيدات سياسات عرب المشرق المناورة. رفض عبد الناصر استعادة الوحدة مع سوريا، عندما جاءه الانقلابيون الدمشقيون باكين. نادمين (1962). ثم رفض عرضا بعثيا، بوحدة مصرية. سورية. عراقية (1963). ثم قبل بالتحالف مع النظام العلوي (1966) الذي عجل بنهاية عبد الناصر والمشروع القومي.

أنا خائف على وصفة الشيخ مرسي، من لعنة الدواء الإيراني الذي تروجه. قد يعيش المريض السوري عليلا، وعلى رأي الشاعر القديم:

كم من عليلٍ قد تخطّاه الردى

فنجا، وبات طبيبُه والعُوَّدُ