السعودية.. لحماية الذاكرة

TT

تحتفل السعودية هذه الأيام بمناسبة اليوم الوطني في ذكراه الـ82، وهو احتفال شعبي وإعلامي وحكومي رسمي أقر بقرار ملكي من الملك عبد الله بن عبد العزيز، بعدما كان هذا اليوم غير مخصوص بعطلة رسمية واحتفالية خاصة.

تحتفل السعودية هذه المرة احتفالا مختلفا، وسط الأعاصير والرياح التي تضرب المنطقة كلها.

الموجود في السعودية، مثلي، يلحظ مظاهر الاحتفال والتفاعل الشعبي بشكل واضح في طرقات وشوارع وساحات المدن الكبرى في السعودية، للدرجة التي جعلت وزارة الداخلية تصدر تحذيرا للعموم من المبالغة في الاحتفال والرقص والاستعراض.

كانت الاستجابة في عمومها لافتة في احتفالها وعفويتها، لكن هل يعني هذا كل شيء؟ هناك من لم يشارك في هذه الحفلة، بل وهناك من دعا إلى الاحتفاء السلبي، إن صح التعبير، عبر توجيه المزيد من الإحباط وبث روح اليأس، والتشكيك بجدوى مثل هذه التعابير الوطنية والمناسبات التي تكرس معنى الإحساس بالمواطنة، خصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي في الإنترنت، وتحديدا «تويتر».

بداية، يجب الإيضاح أن المواطنة ليست مفهوما عاطفيا ولا هي قصيدة شعرية تقال فقط، بل هي ممارسة حياتية، وصلة قانونية، وذاكرة مديدة. إنها حزمة مترابطة ببعضها، فيها تكاليف، وبها حقوق وواجبات، إنها نحن، أو ما نحن عليه، أعني الهوية، مضافا إليها التأطير الفكري والقانوني، وصياغة متفق عليها في خطوطها العامة للذاكرة الوطنية المشتركة. وعليه، فالوطنية أو المواطنة لا تعني صب الناس صبا في قالب واحد وإلغاء التمايزات الثقافية (طائفية، جهوية.. إلخ) المثرية والمغنية، بل هذا إفقار وتجريف للمعنى العميق للمواطنة والمواطنية، فاللوحة الجميلة هي مجموع الألوان والخطوط والتعرجات والانحناءات التي تشكلها بمجملها. لكن المحذور منه هو تحويل الاختلاف الطبيعي إلى عنصر تأزيم يؤسس عليه ما يؤسس.

بكل حال، فإن نقاش أزمة المواطنة أو أزمة الهوية، هو سؤال غير محدود بالحالة السعودية، بل هو نقاش عربي عام، بل أكاد أقول إنه نقاش إسلامي عام، ولن نبعد إذا قلنا إنها مسألة عالمية، تثار في كل بلد ولدى كل أمة بصيغة أو بأخرى، فلنرفق بأنفسنا قليلا.

كما قلنا في البداية، فإن ثمة مظاهر احتفائية تلقائية لدى السعوديين بمناسبة يومهم هذا، وفوق التفسير بالفرح التلقائي للإنسان بوطنه، وهو فرح عبر عنه الشاعر العربي القديم حينما قال:

وحبب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

فوق هذا الشعور العفوي الإنساني، ثمة أسباب أخرى لزيادة الفرح، ومنها استقرار هذا البلد الكبير والضخم في ظل «الفتن» التي تمور فيها دول الجوار، أو جلها، والمستقبل الغامض الذي نتج عن «القفز في المجهول» في حومة الوغى، أو ما لقبوه بالربيع العربي، فهي رسالة تثبيت وتأييد لهذا الاستقرار ولهذه السلامة، وكل شيء يهون عند الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان.

هل يعني هذا أن الصورة زاهية كلها، وأن الجميع محتفٍ ومبتهج؟

هناك - مهما كان عددهم - من يشعر بعدم الرضا، وهناك من يرى أن المسيرة تحتاج إلى كثير من التصحيح والتصويب، وهناك من له نقد على التعليم أو الصحة أو النقل أو الإسكان أو أي منحى من مناحي التنفيذ وإدارة الشأن العام.

يجب أن لا ننزعج من هذا، في هذا المستوى، فالنقد ظاهرة صحية في أي مجتمع، ويجب أن يبقى مسلطا دوما على كل إدارة حتى لا تنام في العسل، وحتى يقال للمحسن: أحسنت. وللمسيء: أسأت.

ليس هذا ما يقلق، ما يقلق حقا هو وجود حس متنامٍ عند البعض يتجاوز النقد، مهما بلغ من قوة، لهذا المرفق أو ذاك، إلى الضيق بأي معنى وطني جامع وبأي مناسبة للاحتفاء بالوطنية وتعزيز الروح الجامعة بين سكان هذا البلد المؤثر على مستوى العالم، هنا نصبح أمام روح سلبية تنتهي في الآخر إلى إضعاف أي روابط تربط الإنسان بوطنه، بدعوى النقد أو الإصرار على حصول هذا الطلب أو ذاك، محقا كان هذا الطلب أو مبطلا، بشكل جعل التبرم الحاد معديا، حتى لمن لم يكن يشكو من شيء لولا تأثره بالمناخ العام.

هل يوجد فساد؟ نعم، وإلا ما معنى إنشاء هيئة للفساد في السعودية، مهما كان الرأي في أدائها؟ هل يوجد ترهل هنا أو هناك في الإدارة؟ نعم، وإلا فما معنى الخطابات المتتالية للملك في التنبيه على سرعة العمل؟

هل يوجد ضيق بالرأي الآخر؟ نعم، وإلا فما معنى فكرة الحوار الوطني، بصرف النظر عن تقويم مفاعيله.

كل هذا معروف، ولو شئنا الزيادة لزدنا، والملاحظ هو ازدياد مساحة النقد حتى في الإعلام السعودي الجماهيري، ومن يتابع مثلا برنامج «الثامنة» على قناة «إم بي سي»، للإعلامي السعودي داود الشريان، يرى ويسمع يوميا جرعة نقد مكثفة للشأن العام السعودي.

ما أعنيه هنا أمر آخر، وهو شحن الجو العام بروح تسخر من الانتماء للوطن تحت ذريعة النقد والغضب، وهذا في ظني أمر يتحمل أكثر من طرف مغبته، خصوصا مغبته على الأجيال الجديدة التي يسهل توجيه فكرها واهتماماتها، حتى وإن تغزل بعض الكهول من مثقفينا بقدرة هؤلاء الفتيان والفتيات على الوعي والفهم، وهو طبعا غزل متملق، لأنه ضد طبائع الأشياء، فالوعي هو نتاج تراكم وتجارب ومعاناة، وهو ما يحتاج إلى زمن، أي إلى عمر، وهو ببساطة ما لا يمتلكه صغير «العمر»، والفهم!

من الأطراف التي تتحمل ضعف التثقيف بمفهوم المواطنة وتغذيته، وتعهده بالسقاية والرعاية، المراكز البحثية والجهات الإعلامية والباحثون، لدينا جهل ذريع بجواب هذا السؤال: كيف بني هذا الوطن؟ ماذا فعل الملك عبد العزيز؟ لماذا نجح؟ وكيف نجح؟ ومن هم أبطال النجاح؟ وما التحديات التي كانت؟ وكيف كنا لنصبح لو لم يحصل هذا الكيان ويتم بعيدا عن ترديد بضع روايات محدودة؟

إن هذا الوطن الذي استوى على سوقه، باسم المملكة العربية السعودية في اليوم الأول من الميزان لعام 1351هـ الموافق للثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول) عام 1932م، لم يكن قصة سهلة ولا مجرد غزوات، ولا بضع رقصات حربية، ولا صور «أبيض وأسود» تستعرض في شريط الذكريات.

لا، فالملك عبد العزيز، الذي كان هو الباني والمؤسس، كان فردا يحمل هموم أمة، كان مرآة تعكس أحلام وآمال سكان الجزيرة التي طالت معاناتها، وإلا فمصاعب التأسيس كان كثيرة وخطيرة. لولا صدق إيمان عبد العزيز بالمشروع، ولولا الرجال الذين بذلوا النفس والمال والذكاء والعلاقات من أجل حماية مشروع الوطن بالمهج والمقل، لما أشرقت شمس السعودية؛ فعبد العزيز حمل أحلام الجميع وعبر بها إلى عالم الواقع. ودور كدور التجار في دعم مشروع عبد العزيز يقدم مثالا على ما نعنيه، وهو دور لا يعرفه كثير من الجيل الجديد.

هنا نعاني فعلا من خطورة الجهل بهذه القصة والملحمة، ولو أجرينا مسحا عشوائيا لكثير من الشباب عن بعض فصول وأبطال هذه الملحمة لوجدنا نتائج لا تسر. ولست أطلب من الجميع أن يطالعوا ويقرأوا، ولكن يجب على من يملك القدرة والرؤية من الجهات الحكومية أو الأهلية تبصير الأجيال الجديدة بما جرى، وليكن ذلك بطرائق تروق لهم ومناسبة لعصرهم الحالي، وكل الأمم تفعل ذلك، فعلام نبخس أبطال التاريخ السعودي، وفي مقدمهم الملك عبد العزيز، حقهم، بالتبصير الحقيقي للجيل الجديد بهم؟ المعرفة حصن وترياق تقي المرء من الدعايات المضادة، خصوصا أن هناك صراعا حادا على رواية الذاكرة، من قبل أطراف مناوئة للسعودية.

هذا جانب من جوانب بناء الوجدان الوطني عبر تكثيف وتعميق راوية الذاكرة، وعدم الاكتفاء بنتف لا تسمن ولا تغني من جوع، وتكرارها بشكل يوحي بالشبع، ولا شبع. وللوطنية جوانب أخرى تتصل بالحاضر والاستجابة له بمرونة وسرعة غير مهلكة.. غير أن هذا حديث آخر.

[email protected]