أحلام العصافير

TT

قرأت عن أعظم تصفية حدثت في التاريخ، وهي تصفية الحكومة الأميركية لجزء كبير من أسلحتها بعد الحرب العالمية الأولى.

وقبل أن أدخل في الموضوع لا بد أن أشير إلى أن هناك مقولة تؤكد: أن الحرب لا تستنفد إلا جزءا يسيرا من المواد التي تصنع للقتال، والتخلص مما يتخلف منها قد يقتضي نظاما لا يقل دقة وعناية عن نظام إنتاجها، وقد يكون التخلص منها أشق الأمرين.

والحكاية وما فيها، أنه في خريف سنة 1918، بلغ جيش الولايات المتحدة ثلاثة ملايين، ولكن العتاد والذخائر الحربية التي أمرت الحكومة الأميركية بصنعها كانت لجيش تعداده خمسة ملايين، معد لهجوم عظيم كان ينتظر شنه في ربيع سنة 1919 ولكن الحرب انتهت فجأة، حين كان سيل العتاد والذخائر يتدفق على خطوط القتال في أوروبا.

كما أن أكثر من نصف العتاد المتخلف سيكون معدات حربية، معظمها من الطائرات وربما بلغ ثمنها عشرين مليارا من الدولارات في ذلك الوقت، وقليل من الطائرات الحربية ما يصلح للطيران المدني، فالطائرات المعروفة بالمقاتلات لا تصلح أبدا للأعمال المدنية، والنفقات التي يقتضيها تحويل طائرة من قاذفة قنابل إلى طائرة تصلح للنقل، كبيرة جدا، وقدرتها على حمل البضائع أو الركاب قليلة، فاستعمالها في الأغراض التجارية كبير النفقة.

ويقول ضابط برتبة (كولونيل): إن أعظم مصيبة يمكن أن تحل بالجيش في زمن السلم هي أن تكون مضطرا إلى الاحتفاظ بآلاف الطائرات مثلا.

على أن إصدار قرار بالتخلص من فائض العتاد الحربي ليس سهلا كما قد يظن، فمصالح الحكومة أشبه بالزوجة الحريصة، التي تميل إلى اختزان بعض المواد خفيفة الحاجة في المستقبل، ومع الوقت يكتشف أنها عديمة الفائدة، وأصبحت (كالشوكة في الحلق).

وقد سبق للجيش الأميركي بعد الحرب أن أحرق أكثر من ألف طائرة رؤي أنها لا تساوي نفقات إعادتها إلى الولايات المتحدة، فثار الرأي العام واضطر الجيش إلى إعادة ما بقي منها، فأكلها الصدأ وهي جاثمة في العراء، فوق تكاليف إعادتها.

هذه القراءة ذهبت بخيالي رأسا إلى منطقة (الشرق الأوسط) ودولها، متسائلا عن عدد الصفقات من الأسلحة تلو الصفقات، والمستودعات التي تمتلئ ثم تفرغ، والصيانات والحراسات، والمصاريف التي لا أول لها ولا آخر.

وتخيلوا معي مجرد تخيل لو أن تلك الدول حاولت أن تتصالح مع نفسها ومع جيرانها، ووفرت (أموال قارون)، التي تنتهي إما كوسائل تدمير، أو (كخردة) تذهب صلاحيتها وقد تباع كـ(سكراب)، وكل المتحاربين في النهاية خاسرون، المنتصر منهم والمهزوم.

لو أن تلك الأموال الطائلة ذهبت للبناء والإبداع والارتقاء الحضاري بالشعوب، كيف يكون الحال؟!

من حسن حظ ألمانيا واليابان أنهما هُزمتا في الحرب العالمية الثانية، وفُرض عليهما ألا يكون لديهما أي جيوش مسلحة، فانزاح من على كاهليهما عبء كبير كان سوف يكلفهما الكثير، وما هي إلا ثلاثة عقود حتى تصدرتا دول العالم في النمو الاقتصادي والعلمي والاجتماعي.

مشكلتي فقط هي: أحلام العصافير، ومن كان منكم لديه بندقية (شوزن)، فليسلطها عليها، لكي يريحني منها.

[email protected]