التنزيل الدستوري في المغرب

TT

ربما كان مصطلح «التنزيل الدستوري» أو «تنزيل الدستور»، في القاموس السياسي المغربي، في حاجة إلى توضيح بالنسبة لعموم القراء العرب خارج المغرب. يعني نعت «التنزيل» هذا الانتقال من علياء التشريع السامي، المفارق للواقع نوعا ما، إلى عالم التشريع القانوني حيث تكون القوانين العضوية وما يتفرع عنها من تنظيمات قانونية. يتحدث الدستور، بطبيعته، لغة مجردة؛ بل موغلة في العموم والتجريد، وتغدو القوانين نظما تكسب العموم والتجريد لباسا قانونيا وتشريعا عمليا قابلا للتطبيق. «تنزيل الدستور» هو إذن ترجمة للروح السامية التي تحكم الدستور وتفريغ للمبادئ العامة التي يقرها، في قوانين وضعية تكون بدورها في حاجة إلى قواعد تنظيمية توجه الفعل وتحدد الأحكام العملية. والدستور المغربي الذي أقره المغاربة بالاقتراع العام يوم 1 يوليو (تموز) من السنة الماضية، يقرر إحداث هيئات ومجالس جديدة ويرتفع بأخرى موجودة إلى مستوى الوجود الدستوري، وهذه في حاجة إلى ترجمة قانونية تنظم المساطر والقواعد العملية. والدستور المغربي الحالي يقرر مبادئ وأحكاما عامة جديدة يقررها في التصدير (الديباجة) أولا؛ مما يكسبها قوة كبيرة وبوصلة موجهة. كما أن هذا الدستور، في أحكام وفصول عديدة، يحمل روحا جديدة بالنسبة لما كانت عليه الأمور من قبل، سواء تعلق الشأن بمسؤوليات الحكومة أو اتصل باتساع دائرة الحريات العامة. والدستور المغربي الحالي، بالنظر إلى الظرفية التاريخية التي انبثق فيها، والقصد بذلك هذا الحراك العربي من جانب أول، ثم التحول الكيفي في مطالب الشباب وفي المضامين الجديدة التي تتضمنها الشعارات التي يحملها الشباب المغربي اليوم.. كل هذه معطيات تجعل حديث تنزيل الدستور في المغرب حديثا يملأ الساحة السياسية ويشغل الرأي العام. هي مرحلة جديدة في الواقع، تعقب إقرار الدستور الجديد وتتشوف إلى تفعيله من جهة أولى، وإلى الحرص على تنفيذ أحكامه من جهة ثانية، وهي، من جهة ثالثة، برنامج تشريعي كامل وغني ينتظر نواب الأمة في البرلمان وترنو إليه عين المجتمع المدني.

يقرر الدستور المغربي، في تصديره، جملة مبادئ وأحكام تحتاج ترجمتها العملية في قوانين ومساطر وأحكام عملية إلى اجتهاد غير يسير وتدرب على التشبع بروح جديدة وسعة أفق من أجل التوفيق بين تلك المبادئ والكليات. من ذلك، على سبيل المثال، القول الصريح إن المغرب دولة إسلامية، ويتبوأ الدين الإسلامي مكانة الصدارة في الهوية المغربية، مع التأكيد على الالتزام بمقتضيات منظومة حقوق الإنسان والعمل على حمايتها.. وهذا من جهة أولى، والتقرير بكون الاتفاقات الدولية، تلك التي يصادق عليه المغرب، تسمو على التشريعات الوطنية، من جهة ثانية. وإذا كان هذا القول قولا عاديا طبيعيا في منطوقه، فإن تنفيذه يحتاج إلى إرادة سياسية أكيدة.

من المجالس الوطنية التي يقرر الدستور المغربي إحداثها، نذكر مجلسا وطنيا للغات والثقافة المغربية، ومجلسا أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهيئة مكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز. وما قلناه هنا ليس بطبيعة الأمر جردا شاملا لكل الهيئات والمجالس الوطنية (سواء منها المحدثة أو تلك التي تم الارتقاء بها إلى درجة التشريع الدستوري أو التي تمت «دسترتها»؛ كما يقول المغاربة).

لو نظرنا برهة في هذا المجلس الوطني للغات والثقافة، المقرر إحداثه في الفصل الخامس (وهو الفصل الذي ينص على اعتبار «الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا للمغاربة من دون استثناء») ثم نظرنا في باقي أحكام الفصل المذكور وفيها ذكر لعمل الدولة على صيانة اللهجة الحسانية، وكذا «حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب» وهذا من جهة أولى، ونظرنا مع ذلك في الفصل الخامس نفسه من الدستور في التأكيد على وجوب تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم والانفتاح على الثقافات، من جهة ثانية.. لو فعلنا لوجدنا أن الأمر في تفعيل أحكام هذا الفصل من الدستور يتطلب جهدا غير يسير، لا بل يتطلب إبداعا حقيقيا لا يكون إلا بحوار وطني شامل تشارك فيه كل مكونات المجتمع المغربي، ثم إن ذلك لا يتأتى إلا بالتخلص من كثير من العادات الذهنية الراسخة، لا بل إنه يستوجب إحداث رجة عميقة في معاني الثقافة والفعل الثقافي في المغرب. إن الأمر يرجع، في حقيقته، إلى إعمال جديد للفكر في المعنى الذي ألفنا إكسابه للهوية المغربية.

متى تأملنا، من جهة أخرى، في مقتضيات الفصل الذي يقرر إحداث مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، فإننا نجدنا وجها لوجه أمام جنس الصعوبات والمشكلات التي لمحنا إلى البعض منها في الفقرة السابقة؛ وهذا جانب أول من العمل الذي ينتظر من المشرع البت فيه. أما الجانب الثاني، وليس بالأقل خطورة (أهمية)، فأمره يرجع إلى الصعوبات التي تطرحها قضايا التعليم والتكوين في عالم اليوم. قضايا ثلاث متشابكة على الأقل فهي تتعلق بالإجابة عن الأسئلة العسيرة التالية: على أي نحو يتعين أن يكون إعداد المواطن المغربي (بواسطة التعليم والتكوين) حتى نكون في توافق مع أحكام ومقتضيات الدستور المغربي الحالي؟ كيف يتأتى توجيه التعليم حتى يكون في حال من المواءمة بين التعليم ومقتضياته (من حيث هو تلقين لجملة من المعارف تتوافق مع مراحل التعليم المختلفة)، وإكراهات سوق الشغل؟ كيف السبيل، مع ما ذكرنا، إلى ضمان الحدود الدنيا المشتركة مع عالم التربية والتعليم من حيث الشمول والعموم الإنسانيين، أي من حيث ما ينبغي أن يكون مشتركا في المستوى العالمي حتى لا نكون في غفلة عن العصر أو نكون خارجه جملة وتفصيلا؟

أما الشأن في إحداث الهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة أشكال التمييز، فآخر.. إنه يستوجب النظر فيه من جهتين: من حيث صلته بالفصل الذي يحيل إليه (الفصل 19 المتعلق بالتنصيص على التساوي التام بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية)، ومن حيث صلته الوثيقة بين هيئات ومجالس أخرى، من جهة أولى، ومن جهة الروابط العضوية التي تشده إلى مبادئ وأحكام الدستور في عمومها من جهة ثانية.

غني عن البيان، في ما نحسب، أن بلوغ الدرجة العالية من المساواة التي يتحدث عنها الفصل 19 المشار إليه يستوجب حدوث تحول كيفي في المجتمع المغربي وفي الثقافة التي تحكم أعضاء ذلك المجتمع. تلك أمور تظل حبرا على ورق أو أماني سامية تدق على التحقق في الواقع ما لم تكن تلك الإرادة الفعلية للمجتمع وما لم تتوفر الشروط الثقافية والاجتماعية الكفيلة بالسير صوب تلك الغاية.

ثم إن القول بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز ليس يستقيم إلا إذا كان هنالك تفعيل عملي، وإرادة حرة لذلك التفعيل، بالنسبة لعمل هيئات وطنية ومجالس أخرى لعل أخصها عندنا الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة؛ الداء الفتاك المتمكن الذي يحيل الأمل في المناصفة والمساواة، بل في المواطنة الحقة، إلى وهم وسراب. والشأن نفسه في مجالس كل من الوسيط، والمنافسة، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.

وأخيرا، فإن تنزيل الدستور على الوجه المطلوب لا يكون ممكنا إلا بمراعاة شروط، أخصها الحفاظ على الروح التي تحكم الدستور الحالي وما يفيض به من آمال في تحقيق الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد وإذكاء روح المواطنة الحقة وإحقاق الديمقراطية والمواطنة التي يبشر بها.