مأزق العرب ومأزق النظام العالمي

TT

تعكس الخطابات التي أُلقيت في افتتاح الدورة الحالية للأُمم المحتدة، حقيقة الموقف على الصعيد العالمي. وهو موقفٌ يشير إلى وجود أزمات كبرى وانسدادات، وهذه الأزماتُ وانسداداتُها ناجمةٌ من جهةٍ عن الاختلالات في المرحلة السابقة، وعن استمرار عجز النظام الدولي في ما بعد الحرب الباردة عن حلِّها. وهذا الوضع المأزقي ناجمٌ – إذا صحَّ التعبير- عن عودة «التوازُن» على الصعيد الدولي، عبر تجاذُب روسيا والصين من جهة، مع الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهةٍ ثانية. وهذا الوضع، أي وضع «توازُن الانسداد» حدث بعد صعود الهيمنة للولايات المتحدة (1990-2005) بالانتصار في الحرب الباردة.

وقد بدأت هذه الهيمنة بضرب العراق عام 1990/1991 ومحاصرته. وآذنت بانتهاء في الغزو في الغزو الثاني للعراق عام 2003، والتخندق فيه حتى العام 2011. وفي حين عجز الروس والصينيون (بل والأوروبيون) عن منع الولايات المتحدة من غزو العراق في المرتين؛ فإنّ الروس والصينيين منذ عدة سنواتٍ (بعد العام 2005/2006 على وجه الخصوص) يواجهون الولايات المتحدة، ليس بقصْد التاسيس لنظامٍ عالميٍّ جديد مليءٍ بالطموحات والآمال كما كان عليه الحال عام 1990؛ بل من أجل التجاذُب والمساومة، والوصول إلى اتفاقٍ في هذا الأمر أو ذاك. ولذا فعندما نشاهد الانسداد في الوضع السوري، يكون واضحاً لدينا أنّ ذلك يعود بشكلٍ رئيسي إلى الانسداد المفروض من جانب الأوضاع الدولية المستجدة في حقبة «عدم التأكد» في المنطقة والعالم: عدم التأكُّد من توازُنات القوة والاستراتيجية في الاقتصاد والتكنولوجيا، والموارد الطبيعية، والوضع الجيوسياسي، والتطور العسكري- وعدم التأكُّد في المنطقة العربية والشرق أوسطية بعد الثورات.

كانت المشكلات العربية، أو العربية - الإسلامية، غالبةً في افتتاح الدورة الجديدة للأُمم المتحدة. فصحيحٌ أنّ الأمين العام للأُمم المتحدة اعتبر الوضع العالميَّ كلَّه مأزوماً؛ لكنه عندما انصرف إلى ذكر المشكلات بالتفصيل تبيَّن أنّ معظمها موجودٌ في المنطقة العربية وما حولها: مسألة التأزُّم نتيجة الفيلم المُسيء للنبي (صلى الله عليه وسلم) وما أثار من ذكرياتٍ بشأن القاعدة والولايات المتحدة والمسلمين والحرب على الإرهاب- ومسألة الثورة السورية، واستمرار الاقتتال والمذابح وضرورة وقف العنف- ومسألة فلسطين، التي لم تغب عن جدول أعمال الأُمم المتحدة منذ أكثر من ستين عاماً، لكنها في السنوات الأخيرة على الخصوص تكتسب حِدَّةً واستشراساً كما حدث مراتٍ من قبل، قبل الحروب وبعدها. والحدَّة هذه المرة آتيةٌ من الاستيطان المستمر والمتصاعد، ومن المحاولات النهائية لإلغاء القدس العربية، والتنكر الكامل لأوسلو والدولة الفلسطينية المستقلة، ومن تسليم الولايات المتحدة (وروسيا وأوروبا) لنتنياهو بكلّ ذلك وإن لأسبابٍ مختلفة.

لقد تحدث عن هذه القضايا جميعاً أيضاً الرئيس باراك أوباما، وبلهجةٍ عاليةٍ ورفيعة المستوى. واللهجة نفسها كان أوباما قد بدأ بها مع بداية ولايته عام 2009 بالنسبة للعلاقة بالمسلمين، وبالنسبة لتجديد المحاولة إقراراً للسلام في الشرق الأوسط (= القضية الفلسطينية). ولا بد من القول- وبدون تجنٍّ – إنّ الرجل كان مخيِّباً للعرب وللمسلمين. فصحيحٌ أنه لم يغزُ بلداناً جديدةً، لكنه استمرّ يقاتل بأفغانستان، وسلَّم العراق لإيران (يعني أورثنا مشكلةً لأجيالٍ قادمة)، وما توقف عن الحرب على الإرهاب بالعمليات الخاصة، وبالطائرات بدون طيار، والتي سقط نتيجتها مئاتُ المدنيين،وحاصروا إيران حصاراً محكماً من أجل الحفاظ المطلق على أمن إسرائيل (غير المهدَّد فعلاً).

بيد أنّ أكبر وجوه فشل أوباما هو القضية الفلسطينية. فقد هزمه نتنياهو بداخل الولايات المتحدة قبل سنتين، ونتيجة ذلك انسحب جورج ميتشل بعد طوافٍ طويل، وما قال أوباما منذ ذلك اليوم «جملة متماسكةً «بشأن فلسطين! أمّا العجزُ الآخَرُ فهو العجز في الشأن السوري، والذي أدّى إلى سقوط أكثر من ثلاثين ألف قتيل، وتهجير مليونين بالداخل والخارج، وجرح نصف مليون، واعتقال أكثر من ثلاثمائة ألف. فما حصل في سورية لم يحصل حتى في راوندا. وإن تكن أشياء من ذلك قد حصلت في بقاعٍ شتّى؛ فإنّ الهوائل التي اجتمعت في سورية وعلى الشعب السوري لم تجتمع في أو على أي بلدٍ آخر! وقد عجزت إدارة أوباما في الأزمة السورية من ثلاثة وجوه: التدخل المباشر أو من خلال الحلف الأطلسي، والسماح لحلفائها بالتدخل مثل تركيا وإنجلترا وفرنسا، والوصول إلى توافق مع روسيا والصين بمجلس الأمن بشأن التدخل لحماية المدنيين!

ومن الناس من يقول إنّ ذلك حدث بسبب « التلبُّث» في فترة الانتخابات، وبسبب ضغط اللوبي الصهيوني الذي لا يريد أن تنتهي المشكلة قريباً في سورية ما دام المستقبل بعد الأسد مقلقاً لإسرائيل. وهذا فضلاً عن معاندةٍ روسيةٍ وصينية كما هو السلوك الجديد، لإظهار القوة في المجال الدولي، وعدم كشف الأوراق إلاّ بعد الانتخابات الأميركية. وعلى أيّ حالٍ فإنّ الموقف الأميركي المنكفئ الذي أدَّى إلى سلسلةٍ من الترددات على المستويين العالمي والإقليمي، رفع خسائر الشعب السوري والأمة العربية إلى درجةٍ غير معقولة فضلاً على أن تكون مقبولة. تماماً مثلما أدّى الانحياز لإسرائيل إلى خساراتٍ كبرى للشعب الفلسطيني، ولأميركا، التي عادت الكراهيةُ تُجاهها تتصاعدُ، مرةً بسبب عدوانيتها، ومرةً أُخرى بسبب انكفائها!

وقد تتالت المواقف» الداعمة» بشأن فلسطين وبشأن الثورة السورية. إنما لم يكن هناك جديدٌ إلاّ في حديثي الرئيس الفرنسي، ورئيس الدولة القطري. كوفي أنان يريد دعم تكليف الإبراهيمي، وكذلك الأمر مع أنصار الرئيس السوري، والذين اعتبروا الذنب مشتركاً بين النظام والمعارضة! أمّا الرئيس الفرنسي فقال إنّ حكومته ما عادت تحتمل العنف الضاري بسورية، وتؤيد إزالة الرئيس الأسد؛ ولذا فإنها ستعترف بشرعية الحكومة السورية المؤقتة التي تنشأ، وتساعدها سياسياً وإنسانياً وعسكرياً.

أما الأمير القطري فقد أعلن يأسه من أن يتحمل مجلس الأمن مسؤولياته بالنسبة لقضيتي فلسطين وسورية. ولذا فإنه يدعم محمود عباس في لجوئه إلى الأُمم المتحدة للحصول على وضع الدولةغير العُضْو. كما أنه يدعو لحلٍّ عربيٍّ للأزمة السورية يُنهي العنف ويخلّص الشعب السوري من الدمار الذي يمارسه نظامه ضدَّه، بالتدخل السياسي والإنساني والعسكري. وما فصّل الشيخ في اقتراحه. لكن المفهوم أنه يريد شرعيةٍ عربيةً ( عبر مؤتمر قمة؟) للتدخل في سورية، وفرض منطقةٍ آمنةٍ أولاً، ثم إنهاء العنف في سائر المناطق. وإذا قيل إنّ الإمكانيات العربية البرية (والجوية؟) غير كافية، فيمكن الاستعانةُ بفرنسا التي تريد الاعتراف بالحكومة السورية المؤقتة. أما التدخل الإيراني، وإمكان الصِدام؛ فينبغي أخذه في الحسبان. إنما ينبغي أن نتذكر أنّ التدخل في لبنان أنقذه، وكذلك التدخل في ليبيا، وأنّ عدم التدخل بالعراق أوقعه في يدي أميركا وإيران!

لدينا إذن انسدادان عربيان هما الموضوع الفلسطيني والموضوع السوري. وقد نتحدث قريباً عن انسدادات في لبنان والعراق! والموضوعان الحاضران لهما علاقةٌ بأميركا وروسيا وإيران. وما أحدثت الثورات العربية تغييراً ظاهراً حتى الآن. وهناك مزاجٌ شبابيٌّ منقبضٌ تُجاه أميركا وتجاه إيران. لكنني أحسبُ أنّ الانفراج في سورية وفي فلسطين خلال الشهور القادمة، ستكون له آثارةٌ إيجابيةٌ على العلائق في الإقليم ومع العالم، والعكس بالعكس.