لحظة مثيرة في انتظار تركيا

TT

سوف تتزامن عودة الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان) في تركيا من عطلتها الصيفية في الأسبوع المقبل مع واحدة من أكثر اللحظات المثيرة والخطيرة، في نفس الوقت، في رحلة تركيا الشاقة لإعادة تعريف هويتها في ظل حكم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.

من المرجح أن يدخل أردوغان التاريخ باعتباره واحدا من أعظم الزعماء السياسيين في التاريخ التركي منذ تأسيس الجمهورية التركية في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1923، فخلال فترة قيادته للحكومة، تمكن من إخراج تركيا من دائرة الفقر والتضخم المفزعة، ليبدأ في بناء دولة حديثة.

يمتلك أردوغان سجلا سياسيا مثيرا للإعجاب، حيث تمكن من دمج التيار الإسلامي المهمش في التيار السياسي الرئيسي في البلاد عن طريق تطوير مفهوم «مجتمع إسلامي في دولة علمانية»، فضلا عن تمكنه من كسب أرضية جديدة لتركيا في الخارج في بيئتها الجيوسياسية، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

وبالتالي، فلا عجب أن يسعى أردوغان للاحتفال بسجله الحافل عن طريق اثنين من الآثار المهمة التي سيخلفها وراءه، والتي سيكون أولها المسجد الذي سيتم بناءه في اسطنبول والذي يوصف بـ «الأكبر العالم» ويقال إنه سيحاكي المسجد الذي تم بناءه في عهد السلطان سليمان القانوني. أما الأثر الثاني فسيكون دستور جديد لتغير نظام الحكم في البلاد إلى رئاسي على أمل أن يكون أردوغان هو أول رئيس للجمهورية التركية الجديدة، عقب الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك.

لا يزال الجميع يتساءلون عن الشكل الذي سيخرج عليه المسجد المزمع تشيده وما إن كان سيأتي منافسا للجمال المعماري العثماني الذي تتمتع به الكثير من الصروح في العاصمة التركية اسطنبول أم لا.

ولكن هذا الأمر لا يأتي على نفس درجة الأهمية الخاصة بموضوع الدستور الجديد.

يتفق معظم الناس على ضرورة إدخال تعديلات جوهرية على الدستور الحالي، والذي تم إقراره تحت الحكم العسكري في عام 1982 وجرى تعديله مرتين. ولكن السؤال الآن هو: ما هي طبيعة تلك التعديلات بالضبط؟

إن كتابة دستور جديد فقط للسماح لأردوغان بتولي منصب الرئيس بدلا من منصب رئيس الوزراء لا يعد حجة مقنعة على الإطلاق.

يستطيع المرء أن يؤكد أن النظام البرلماني، الذي يقوم فيه رئيس الوزراء وحكومته بممارسة مهام السلطة التنفيذية، هو النظام الأكثر ملائمة لاحتياجات تركيا، حيث أنه يضمن زيادة المشاركة السياسية ويتمتع بالمرونة الكافية لتعديل السياسات من خلال المناقشات التي تجري في البرلمان، فضلا عن أنه يقلل أيضا من مخاطر وقوع صراع بين الأغلبية البرلمانية ورئيس الدولة الذي ينتمي إلى معسكر منافس.

وعلى الرغم من ذلك، فإن المشكلة التي سيواجهها أردوغان وواضعي الدستور الجديد في نهاية المطاف ليست مقتصرة فقط على هذه المخاوف، ولكن ربما تكون المشكلة الأصعب هي مسألة الهوية.

اعتمدت تركيا الحديثة، التي ظهرت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، هوية تتماشى مع روح القرن التاسع عشر في أوروبا، حيث جرى تقسيم العالم إلى دول مختلفة. وعلى نحو مفاجئ، تم إعلان ما تبقى من هذه الإمبراطورية المتعددة الجنسيات والأديان على أنه دولة قومية على النمط الأوروبي، حيث تم تعريف تركيا على أنها «أمة» على الرغم من أنها تتألف من شعوب عديدة لديهم خلفيات وطنية متنوعة. تمتلئ الدساتير المتعاقبة التي تمت صياغتها في دولة أتاتورك بالكثير من الإشارات إلى الأمة والقومية والمصالح القومية والثقافة القومية و»السيادة الكاملة لإرادة الأمة».

وعلى الرغم من ذلك، تحتوي كافة نصوص الدساتير المتعاقبة على تناقضات كبيرة، والتي يأتي على رأسها تعريف الدولة بأنها جمهورية ونظام الحكومة بأنه ديمقراطي، ولكن كان من الأنسب وضع مفاهيم الدولة والديمقراطية في نظام يشدد على المواطنة والشعبية.

يمكن أن تكون الديمقراطية متعددة الجنسيات، كما هو الحال في المملكة المتحدة ودولة العراق المجاورة لتركيا. أما الجمهورية فتنتمي إلى مواطنيها، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية و/أو القومية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، حيث توجد تعريفات ذاتية تتجاوز مسألة الهويات القومية.

إن حصر الهوية التركية في المكون العرقي واللغوي التركي فقط سوف يؤدي إلى إنكار التعريف الذاتي للأكراد، الذين يشكلون 20 في المائة من السكان. وسواء أحب الناس ذلك أم لا، لا يعتبر كثير من المواطنين الأكراد المخلصين والملتزمين بالقانون داخل الجمهورية التركية أنفسهم جزءا من الأمة التركية ولا تنعكس تطلعاتهم في القومية التركية.

إذا، كيف يمكن التعامل مع هذا اللغز؟

تتمثل إحدى الأساليب في إنكار وجود هذه المشكلة، تماما كما يفعل بعض القوميين الأتراك، حيث أن أي محاولة لتعريف تركيا على أنها جمهورية ثنائية القومية قد ينتج عنها ردود فعل سياسية عنيفة، أو ربما العودة إلى الحكم العسكري مرة أخرى.

أما الأسلوب الثاني فيتمثل في الدعوة لانفصال الأكراد عن الدولة التركية، وهو ما يقوم به «حزب العمال الكردستاني»، الذي يحلم بقومية كردية منفصلة وإقامة دولة مستقلة في شرق الأناضول، على الرغم من نفيه المتكرر لهذا الأمر.

أما الأسلوب الثالث، والذي ربما يكون الأكثر واقعية، فيتمثل في تعريف تركيا على أنها جمهورية ديمقراطية يتمتع فيها كافة المواطنين بحقوق ومسئوليات متساوية بغض النظر عن اختلاف هويتهم الوطنية.

من المنطقي أن يتعاطف أردوغان مع وجهة النظر الأخيرة، والسبب في ذلك يرجع إلى أن أردوغان يعرف نفسه على أنه مسلم ملتزم، على الأقل في الجلسات الخاصة. وعلى هذا النحو، يعي أردوغان أن الإسلام لا يتلاءم مع المفهوم الحديث للقومية، الذي تشكل في أوروبا في القرن التاسع عشر، ويدرك تماما في نفس الوقت أن عددا قليلا من الأشخاص، حتى في داخل حزبه، سوف يوافقون على تعريف تركيا على أنها جزء من الأمة الإسلامية.

تكمن الطريقة المثلى للخروج من هذا المأزق في عدم حبس تركيا سواء في إطار الهوية القومية التي عفا عليها الزمن أو حتى في مفهوم الأمة الأكثر خداعا. يشدد المنطق السليم على ضرورة صياغة دستور جديد يستند إلى الواقع الحقيقي لتركيا كمجتمع يتمتع بمجموعة متنوعة من الخلفيات العرقية واللغوية والثقافية ودرجات متفاوتة من الإيمان وعدم الإيمان، مجتمع يرتبط سويا بمفهوم المواطنة المبنى على أساس سيادة القانون في جمهورية ديمقراطية.

ثمة لحظة مثيرة بانتظار تركيا، ولكن دعونا نرى ماذا سيفعل النخبة في البلاد حيال ذلك.