وعود انتخابية

TT

انتخاب رؤساء وحكومات في جمهوريات الانقلابات العسكرية في شمال أفريقيا واليمن (ما زلنا بانتظار ما يسفر عنه الصراع في سوريا)، في أعقاب شبه ثورات 2011، يمثل ظاهرة جديدة لم تألفها الأجيال الشابة.

ولا نعرف هل ستتكرر الظاهرة وتتبدل الحكومات بالانتخاب، أم تصبح الظاهرة مجرد تجربة «فريدة» لن تتكرر (ألمانيا انتخبت أدولف هتلر عام 1933 فألغى الديمقراطية كانحلال غربي غير ملائم)، أم تتكرر الانتخابات ولا تتغير الحكومة بفضل قوانين تضمن احتكار حزب شمولي للحكم إلى ما شاء الله (نتائج انتخابات الاتحاد السوفياتي كانت معروفة مقدما طوال ستة عقود؛ واستنسخت إيران الخمينية التجربة السوفياتية لتضمن فوز الحزب الجمهوري الإسلامي في كل انتخابات).

وباستثناء من جاوز السبعين في مصر والعراق ضاعت من الذاكرة الجمعية تجربة تبدل الحكومات بالانتخابات. وإلى أن يصدر التاريخ حكمه، نحاول تذكير الأجيال الشابة بما اختبره الآباء والأجداد من نظم برلمانية قبل سنوات «التحرر الوطني المجيد»!

نقدم نماذج حية من أم الديمقراطيات، حيث لا يزال ساستها يتعلمون دروس الصواب والخطأ، رغم امتداد مسيرة الديمقراطية 800 عام منذ توقيع «الماغنا كارتا» (1215م).

زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار نيكولاس كليغ (وتعرفه الصحافة باسم التدليل المختصر نك كليغ) وهو أيضا نائب رئيس الوزراء في الحكومة الائتلافية، أصدر الأسبوع الماضي اعتذارا علنيا لتراجعه عن تنفيذ وعده الانتخابي في حملة عام 2010 التي انتهت ببرلمان معلق وائتلاف حزبه مع المحافظين.

الاعتذار تحول إلى شريط فيديو غنائي هزلي يظهر فيه نائب رئيس وزراء بريطانيا العظمى «مسخرة» مضحكة. المستر كليغ لم يشكُ إلى النيابة العامة، ولم يطلب من محاميه جر الكوميديين والمنولوجست الذين صنعوا الفيديو إلى المحكمة بتهمة إهانة نائب رئيس الحكومة وامتهان كرامته. لكنه أعلن مباركته للفيديو رسميا، وأحرج الكوميديين بمطالبته باستثمار دخول مبيعات الفيلم في صندوق خيري لرعاية الطلاب الذين تضرروا من زيادة المصاريف الدراسية (ليس هذا موضوع الدرس الذي أريد أن أسوقه للقراء، بل ناتج ثانوي للحكاية).

اعتذار المستر كليغ أثار التساؤل (الساخر طبعا من الصحافيين الأشقياء على «تويتر» والبلوغات وأعمدة الرأي): هل يعتذر عن عجزه في تنفيذ وعده بعدم زيادة المصاريف الجامعية للطلاب (وكان هذا سببا لمظاهرتين كبيرتين للطلبة أدتا إلى تحطيم أثاث ومحلات وإصابات واعتداء على سيارة الأمير تشارلز، وتعرض كثير من المتظاهرين لعقوبات في المحاكم)، أم يعتذر عن إصدار الوعد أصلا؟

اعتذار رجال السياسة أمر نادر الحدوث، مثل مرور أسبوع بلا أمطار غزيرة في بريطانيا. وعندما يعتذر رجل السياسة فغالبا ما يكون من أجل رفع أسهمه السياسية عند الناخب، وفي معظم الأحوال عن فعل لم يكن هو مسؤولا عنه (كاعتذار رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قبل أسبوعين عن تزييف البوليس لواقعة مصرع مشجعي كرة القدم في شيفلد قبل 23 عاما عندما كان لا يزال تلميذا في المدرسة)، أو من أجل تحويل انتباه الصحافيين عن صلب الموضوع، خاصة أن الصحافة هي المراقب الحقيقي لأداء الحكومة نيابة عن الشعب عندما تكون المعارضة البرلمانية ضعيفة.

كليغ ليس استثناء من الساسة، ولذا انشغل معظم الصحافيين، خاصة الشباب، في التحقق من مساعديه، ومن زعماء حزب الديمقراطيين الأحرار؛ هل كان اعتذاره عن التهور بتقديم وعد انتخابي قبل التأكد من وجود ميزانية كافية لتنفيذه (وهو الانطباع الذي روج له وزير الأعمال والاستثمارات التجارية فينسنت كابل الذي تفوق شعبيته شعبية كليغ نفسه)؟ أم أن الظروف الاقتصادية هي التي حالت دون تنفيذه (كما يروج دانيال ألكسندر، وزير الخزانة في حكومة الائتلاف)؟ أم أن المشاركة كأقلية في حكومة ائتلاف أغلبيتها محافظون غلت يدي كليغ عن تنفيذ الوعد (مثلما تدعي مستشارته السياسية في لقاءاتها مع الصحافيين)؟

أقلية من الصحافيين - من جيل العواجيز المخضرمين - لم يغرقوا في ضباب التكهنات، وواجهوا كليغ ومساعديه بتهمة خداع الناخب بتقديم وعد يعرفون مسبقا أنه من المستحيل تنفيذه.

الديمقراطيون الأحرار ظهروا كحزب عام 1988 من اندماج الأحرار (الليبراليين) مع الديمقراطيين (الاشتراكيين) بناء على طلب الأخيرين، الذين رأوا في الأحرار طوق نجاة من الغرق بعد سبع سنوات من ظهورهم كحزب منشق عن «العمال» المعارض عام 1981، وكانت رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر تنبأت وقتها بغرقهم في طوفان التاريخ قبل نهاية العقد.

في العقود السبعة الأخيرة لم يحصل الأحرار (والديمقراطيون الأحرار منذ انتخابات 1993) على أكثر من 13 في المائة من الأصوات في أي انتخابات (وبعض المرات تقل أصواتهم عن 10 في المائة وتضعهم استطلاعات الرأي حاليا في المركز الرابع بعد حزب استقلال المملكة المتحدة وهو على يمين المحافظين). أي لم يكن لديهم أبدا أي أمل في تشكيل حكومة كحزب بمفردهم، إذ يلزم ذلك كسب أكثر من نصف عدد المقاعد البرلمانية. وهو أمر في متناول المحافظين (بـ45 في المائة من الأصوات) أو العمال (بـ41 في المائة من الأصوات)، أي أن حسابات عدد الأصوات التي يعرفها زعيم الديمقراطيين الأحرار تثبت أنه وضع في برنامجه الانتخابي وعدا كان يعرف مقدما أنه لن يكون باستطاعته تنفيذه مهما كانت نتائج الانتخابات وبصرف النظر عن الظروف الاقتصادية. الحزبان الكبيران (العمال والمحافظين) أكدا أثناء الحملة الانتخابية أنه ليس بمقدور أي حكومة يشكلها أي حزب تقديم ميزانية للتعليم العالي بلا زيادة مصروفات الدراسة الجامعية. ولما كان من المؤكد أن فرصة الديمقراطيين الأحرار الوحيدة في الوصول للحكم كانت فقط في حالة برلمان معلق بالدخول في ائتلاف مع أحد حزبين أكدت برامجهما الانتخابية ضرورة زيادة مصاريف الدراسة، فلا بد أن زعيم الحزب قدم وعدا يعرف مقدما استحالة تنفيذه للناخب.

كليغ راهن على أن اعتذاره قد يقدم صورته للناخب على أنه سياسي طيب النوايا يعتذر عن أخطائه، لكن الصحافيين المخضرمين كضمير الشعب، قدموا صورة مغايرة أدت إلى انخفاض شعبيته.

الدرس الذي نريد تقديمه ونتمنى أن تعيه شعوب المنطقة له بعدان؛ الأول عدم الانسياق وراء وعود وشعارات يقدمها الزعماء والساسة مهما بدت الشعارات نبيلة أو استشهد الساسة بكلمات مقدسة من الكتب السماوية. أما البعد الثاني فهو أن وسيلة وضع وعود الساسة أمام مرآة الاختبار هي صحافة مسؤولة وصحافيون أمناء يقومون بعملية حساب الأصوات والتوازنات وفحص أرقام الميزانية للتأكد من مصداقية السياسي ومدى إمكانية إيجاد ميزانية تمكنه من تنفيذ الوعود. أما تكاسل الصحافي عن التحقق من الأمر فيجعله شريكا في خداع الناخب.