الديمقراطية الكويتية.. عبودية الشعار وفساد الحصاد

TT

بالنظر إلى ما حدث في الكويت منتصف الأسبوع الماضي، عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكمها الإيجابي في الإشكال الذي رفعته الحكومة الكويتية حول قانون الانتخاب الكويتي الساري المبني على خمس دوائر حسب المناطق السكنية، ولكل مواطن الحق في انتخاب أربعة ممثلين له في المجلس النيابي. فإنه ليس انتصارا كما أرادت جماعة الأكثرية النيابية التي تشكلت في مجلس 2012 رؤيته (أستخدم مفهوم الأكثرية بشكل مطاط)، ولا هزيمة كما رأى بعض المتحمسين، هو فقط إجراء في سلسلة طويلة من علامات الطريق إلى الديمقراطية بمعناها الشامل - كما نأمل - إلا أنه في العمق يعني فشل النخب في الحفاظ على مهارات تحقق للديمقراطية المبتغاة ولو بعض أهدافها.

في الأشهر الماضية دخلت فئات من المجتمع في الكويت في نقاش قانوني وسياسي تحول في بعضه إلى جدل، حول ما يمكن تسميته بـ«دوامة تطبيق الديمقراطية» انصب النقاش فيها على أن الحكومة الكويتية تضمر شرا بلجوئها للمحكمة الدستورية، من أجل توزيع جديد للدوائر الانتخابية يخدم أهدافها ويشتت تحالفات الأكثرية! أو أن المعارضة - وهي معارضة موسعة لا تتفق في التفاصيل - كانت تريد أن تفرض نفسها على الجمهور الناخب بإعادة رموزها من جديد إلى سدة المجلس النيابي، بنفس الطريقة التي مكنها بها التوزيع القائم من الوصول إلى مجلس 2012. النقاش ذاك والتحمس له في الشارع، كان خارج السياق.

قراءتي أن ما حدث لا هو انتصار ولا هزيمة، أفضل ما يمكن أن يوصف به القرار هو المراوحة في المكان، الحقيقة التي يريد الجميع أن يتجاهلها، فالأزمة لا تزال مستمرة، لأن هناك عجزا واضحا عن تقديم مشروع إصلاحي يخاطب عمق الأزمة ومحدد، يحقق للأغلبية الصامتة في الكويت مسارا معقولا من التنمية.

في الكويت، هناك من ينظر إلى الديمقراطية بعين واحدة؛ ترغب أن تحقق تلك العين خرافة السيطرة الكاملة على مسيرة الديمقراطية. وهو تصور ينافي المفهوم الأساسي للديمقراطية كما عرفتها البشرية، قبول الآخر والتعايش معه والوصول إلى حلول وسطى وتحقيق أهداف مجتمعية مرغوبة هو صلب العمل السياسي. لا يوجد تصور في الكويت لإقامة أحزاب أو تجمعات سياسية حديثة قائمة على المصالح السياسية، كما في بقية أشكال الممارسات الديمقراطية في العالم؛ هي ممارسة ديمقراطية قائمة على أنماط من التعاضد - ما قبل الديمقراطي - كالقبيلة والطائفة، وهي ليست موجودة في الساحة العملية إلا في لبنان المنكوب، القول بأهمية التنظيم السياسي القانوني هو قريب إلى الرهاب في الكويت ومسكوت عنه في الوقت الذي يتجمع فيه الناس حول الطائفة والقبيلة وأشكال من التنظيم الاجتماعي ما قبل الدولة.

حتى حزب الحرية والعدالة المصري – إن كنا نريد أن نستشهد - القائم على حركة الإخوان المسلمين التي قررت أن تنشئ حزبا، أدخل مسيحيين فيه، تطبيقا لقانون، أن لا يقتصر تنظيم سياسي على خلفية دينية فقط! وهو قانون حضاري وإنساني. في الكويت التجمعات السياسية الفاعلة على الساحة، إما مستندة إلى قاعدة سنية أو شيعية أو قبلية أو عائلية؛ أقول الفاعلة، ولا أقول إن الكويت خالية من تجمعات سياسية مختلطة، معتمدة على الشعار السياسي. إلا أن الأخيرة محدودة التأثير، ولا يوجد تفكير جدي في أن يكون هناك قانون حديث ينظم الحراك السياسي معتمدا على نبذ الطائفية والقبلية واعتبارها مكونا اجتماعيا فقط وليس سياسيا، وليس - إلا فيما ندر - من يتناول هذا الأمر في خطابه السياسي.

يحب الناشطون السياسيون في الكويت أن يختبئوا خلف الدستور، ولكنهم لا يناقشون الأهم، وهو كيف يمكن تطوير الممارسة السياسية في الكويت للخروج من هذا النفق الدائم من الكر والفر. لا يوجد مشروع إصلاحي متكامل، سواء لدى الحكومة أو الأكثرية النيابية (مع التحفظ على المفهوم) وهو مشروع يبدأ من ترقية التعليم الذي يجب أن يتعود الناس من خلاله قبول الآخر المختلف والتعايش معه، وأيضا يرتكز هذا المشروع المبتغى على إكمال النظام الديمقراطي بوجود أحزاب أو تجمعات سياسية قائمة على قانون حديث ينبذ الارتكاز على المكونات الاجتماعية لما قبل الدولة ذات الهويات الصغرى.

العجز المؤسسي الفاضح الذي لا يريد أحد الخوض فيه أو مناقشته سيبقى معنا يعطل التجربة ويسمم الأجواء، وسوف يبقى معه الطريق المسدود للتنمية السياسية ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية. في هذا المكان قلت قبل أكثر من شهر إن المشكلة السياسية في الكويت ليست نصوص قوانين، فلقد ضيع المجتمع شهورا من النقاش الذي لم يخلُ من حدة ومن مسيرات وضغوط في الشارع، ثم انتهى الأمر إلى النقطة الأولى من المربع الأول. انتخابات مقبلة معتمدة على تجمعات سياسية في الغالب هلامية وشخصية، معظمها يقوم على المذهب والطائفة!

الصراع الاجتماعي سوف يبقى كما هو لأن هناك فشلا واضحا في إدارته بطريقة حديثة، تلك الإدارة التي تتطلب مشروعا تحديثيا غير موجود لا لدى السلطة ولا لدى الأكثرية أو الأقلية على تقلب وجوهها، التي تتجمع - الآن - لإدارة صراع شبه شخصاني، الخاسر فيه هو الشعب وقطاعاته الواسعة التي ترى مدى تدهور الخدمات حولها في الصحة والتعليم والإدارة والمرافق، وهي مرشحة للتدهور أكثر نتيجة هذا الصراع السياسي السلبي شبه العبثي، الذي يتغذى على الحمية والنصرة العرقية لا على منافسة البرامج السياسية الصحية. فبمجرد الحديث عن برامج - كما هو حال جميع خلق الله الممارسين للسياسة في العالم - سوف تتشقق الأكثرية لأن كل جماعة أو ربما كل فرد فيها ترى المخرج في مكان غير المكان الذي تريده الأخرى، لأنها أكثرية غير متناسقة بالتوجهات أو الخلفيات ولا ترتبط ببعضها بوثيقة مكتوبة وبرنامج واضح كما الأحزاب. فالقول بالحريات مثلا مختلف عليه بينها فيما هو سقفها وماذا تعني، كما القول بالتعايش مع الآخر المختلف، كما القول بتحسين التعليم وتطويره، كما القول بتحسين الإدارة العامة.

هناك عوار انتخابي حقيقي في الكويت لا أحد يريد الاقتراب منه، فالكثير من الدورات الانتخابية في العالم إما أن تقوم على ترشيح أحزاب ذات برامج لأفراد تجد فيهم تلك الأحزاب من القدرات والكفاءة ما يمكنهم من تحقيق البرامج، أو أن يكون الانتخاب على درجتين (أو مرحلتين)، يكون فيه النائب حقيقة ممثل «الأمة أو أغلبها» بدلا من تمثيله لشريحته الاجتماعية المحدودة.

في الكويت لا هذا ولا ذاك محقق أو حتى قريب إلى التحقق. الأزمات السياسية المتلاحقة في السنوات الأخيرة تركت شرخا عموديا في المجتمع، تنادت القوى الأكثر استنارة في المجتمع المدني من أجل ترميمه، إلا أن هذا الشرخ يحتاج إلى الكثير من الجهد المنظم والرسمي وإلى إقناع الأغلبية الصامتة ذات الاعتدال السياسي أن ترفع صوتها، وربما أول ما يحتاجه الوضع السياسي الاعتراف بأن صراعا موجودا غير واضح المعالم، وعدم تجاوزه تحت مسميات وشعارات يعرف الجميع أنها فقط للاستهلاك المحلي. هو جرح غائر في الجسم يحتاج إلى علاج حقيقي لا تضميد من الخارج. وهو جرح تعمقه الأحداث في المنطقة ويزيده الجهل والتجهيل عمقا. فلا مناص من وضع تصور إصلاحي واسع النطاق كي يستطيع المجتمع أولا علاج تداعيات هذا الشرخ ومن ثم اقتلاع أسبابه من الجذور.

آخر الكلام:

الديمقراطية ثقافة قبل أي شيء آخر، في العالم الثالث، إن لم نكن حذرين، هناك خطورة أن تتحول الديمقراطية إلى شكل جديد من أشكال الاستبداد!