هو مهد وليس مطرقة

TT

كل شيء بدأ قبل عامين عندما تسلم أحد الصحافيين المبتدئين الأتراك محمد برانسو أكياسا مملوءة بالوثائق والملفات، لم يكشف النقاب يوما عن مصدرها، تتحدث عن تورط بعض كبار ضباط المؤسسة العسكرية في التخطيط لانقلاب يطيح بحكومة العدالة والتنمية التي أزعجت هيمنتها على الحكم البعض وأخافت البعض الآخر في الداخل والخارج.

قبل أيام نطقت محكمة «سيليفري» بالحكم النهائي بحق 325 متهما في هذه القضية، وقضت بسجن 80 ضابطا بينهم برتب جنرال وأميرال تسلموا أهم المواقع الحساسة في المؤسسة العسكرية التركية بعقوبات السجن المؤيد، خفضتها إلى مدد تتراوح بين العشرة والعشرين عاما. أوزدان أورناك، إبراهيم فرتنا، محمد أونوزبير أوغلو، أرغين صايغون، ودورسون شيشاك، شخصيات عسكرية رقعت على صدورها الأوسمة والميداليات هي الآن تنفذ قرار محكمة الجزاء في إسطنبول بسجن طويل لا يعرف أحد كم سيكون عدد الذين يغادرونه وهم على قيد الحياة.

اسم «العدالة والتنمية» سيرافقه هو الآخر اسم «سيليفري»، هذا الكابوس الدائم الذي سينتظر 5 سنوات أخرى على أقل تقدير بانتظار أن تقول المحكمة العليا رأيها في القرار الذي يصر البعض على أنه سياسي قبل أن يكون قانونيا.

المعارضة التركية تحذر من أن يكون ميزان العدالة قد اختل بسبب دخول «العدالة» على الخط. الكثير من وسائل الإعلام تتحدث عن تهم مفبركة ومدبرة، وأحد أبرز المتهمين تشتين دوغان يقول إن شعار «العدل أساس الملك» تراجع لصالح «الظلم أساس الملك». بعض الحقوقيين يراهن على رد الحكم من قبل مجلس القضاء الأعلى بسبب رفض طلب الدفاع في الاستماع إلى شهادات قيادات الأركان مثل يشار بيوك انيت وايتاش يلمان وحلمي أوزكوك التي كانت في الخدمة وقتها.

ابنة أحد الضباط المحاكمين هددت تقول: «هنا تركيا، من الذي يضمن لهم أنهم لن يجدوا أنفسهم يوما في المكان الذي نجلس فيه نحن؟». وهذا ما يعزز مقولة إن القضية لم تحسم، بل هي بدأت لتوها مع صدور هذا الحكم.

علامات استفهام وتساؤل كثيرة تحمل معها نقاشا في العمق حول ما إذا كانت تركيا خرجت من هذا القطوع أم لا، ويتقدمها طبعا:

- هل تمت تصفية الحسابات بين المؤسسة العسكرية والمدنيين في تركيا الذين كانوا لعقود طويلة تحت رحمة مطرقة هذه القوة فأنزلوا بها ضربة السندان أو المهد التي أطاحت بنفوذها وقدرتها على التدخل والتأثير في الحياة السياسية اليومية التركية؟

- هل ولت حقا إلى غير رجعة مقولة الانقلابات العسكرية في البلاد والتلويح الدائم بها منذ تأسيس الجمهورية وحتى اليوم؟

- هل نجح القضاء التركي في إثبات استقلاليته وإزالة الكثير من الانتقادات والشبهات حول خضوعه لمجموعات ضغط سياسية وفكرية سيطرت على بنيته الجديدة التي يقال إنها انتقلت من يد الأتاتوركيين والعلمانيين المتشددين إلى إسلاميين منفتحين على الحكومة وتوجهاتها؟

- هل ستساهم هذه المحاكمة في فتح الأبواب أمام مرحلة جديدة من العلاقة بين الجيش والمنظمات والهيئات المدنية وتسهيل المصالحة التاريخية بين هذين القطبين، أم أنها ستكون القشة التي تقصم ظهر البعير وتقطع الطريق على كل محاولات وفرص الانفتاح والتقارب؟

- هل أن هذا المهد الذي نزل بكل ثقله على المؤسسة العسكرية هو ضربة تستهدف تحطيم الحواجز بين ذهنيتين وتصورين وتكتلين في تركيا أم أنه سيساهم قي تعميق الحفرة وزيادة التباعد والشرخ بينهما؟

- هل الصدفة وحدها هي التي أدت إلى عملية فتح علبة البندورا هذه لتقود تركيا نحو أهم محاكمات العصر لعسكريين قادوا القوات البرية والبحرية والجوية في أقوى جيوش المنطقة وثاني أهم قوة عددية في جيش حلف شمال الأطلسي؟ أم أن ما يجري هو حلقة من الربيع العربي الذي يقال إنه تفجر في تونس لكن الحقيقة هي أنه بدأ ومنذ سنوات من تركيا نفسها؟

البعض بدأ يتحدث في هذه الآونة عن ملف جديد جاهز للتفجير، وهو دور ضباط برتب عليا في الجيش تورطوا في عمليات انتشال بعض المصارف من الإفلاس والإطاحة بأخرى إبان الأزمة الاقتصادية المالية التي عصفت بتركيا في مطلع عام 2001 بحسب ميول وانتماءات أصحاب هذه المؤسسات أو في إطار مصالح ومنافع شخصية. فهل هي عملية البلدوزر هذه المرة لاقتلاع ما تبقى من نفوذ ورواسب وفرص في احتمالات عودة المؤسسة العسكرية إلى أيام زمان؟