سلطة الدولة عندما تستسلم لسلطة الشارع

TT

عدة مئات من ألتراس الأهلي، والمقصود بالأهلي هو فريق النادي الأهلي المصري لكرة القدم، أما كلمة الألتراس فهي جديدة على قاموس كرة القدم، فلعشرات السنين كنا نعرف فقط «مشجعي الفريق»، غير أنه يبدو أن التشجيع بمقاييس الماضي لم يعد كافيا في هذا العصر، لم يعد كافيا أن تشجع فريقك فقط، أي تسعد بانتصاراته وتحزن لهزائمه، بل يجب أن تكون فاعلا ليس في ملعب كرة القدم فقط، بل تتجاوز ذلك لتكون مؤثرا في الحياة ذاتها، ليس حياة اللاعبين والمدربين والإداريين، بل حياة هؤلاء الذين لا صلة لهم بكل أنواع الرياضة، وبذلك تكون قد تحولت إلى قوة سياسية على الأرض تحسب لها الدولة ألف حساب. قوة سياسية لا برنامج لها أو أهداف واضحة. وكلمة ألترا «Ultra» تعني فوق أو الأعلى، أو الأكثر ارتفاعا أو قيمة، وبذلك يكون الفرق بين الألترا والمشجع العادي، هو نفسه الفرق بين المهندس والباشمهندس. هو إذن باشمشجع.

عدة مئات من هؤلاء الألتراس ذهبوا منذ أربعة أيام إلى مدينة الإنتاج الإعلامي، ودخلوا المبنى. لاحظ أنني استخدمت كلمة (دخلوا) ولم أقل (اقتحموا)، كان من الواضح من اللقطات التي نقلتها الكاميرات، أن رجال الأمن المكلفين حراسة البوابات، قرروا عدم التصدي لهم حقنا للدماء، خاصة أن الألتراس كانوا يهتفون (سلمية.. سلمية)، اتخذوا بعد ذلك طريقهم إلى استديوهات محطة «مودرن سبورت»، وهناك قابلوا مدير المحطة وعرضوا عليه مطالبهم بشكل سلمي وبشكل يخلو من أي تهديد. ولأنه لا يوجد عند أي مخلوق محضر اجتماع سجل تفاصيل هذا اللقاء، لذلك سأعطي لنفسي الحق في تخيل الحوار الذي دار بينهم وبين مدير المحطة، مستعينا بما قاله هو شخصيا وهو يعقب على ما حدث وذلك عندما قال: لم يحطموا شيئا، ولم يظهروا أي عنف.. وكانوا سلميين. مرة أخرى، الحوار الذي ستقرأه الآن، أشبه بإعادة تمثيل الحادث أو الواقعة كما تجريه سلطات التحقيق بعد الجرائم.

المدير: أهلا وسهلا.. تحت أمركم.. طلباتكم؟

الألتراس: هناك ثلاثة مذيعين يعقبون على المباريات.. هم أحمد شوبير ومدحت شلبي وخالد الغندور..

المدير: نعم أعرفهم.. مالهم؟

الألتراس: ما يطلعوش على الشاشة.. ما يشتغلوش.

المدير: بس كده؟ غالي والطلب رخيص.. خلاص، ما يشتغلوش.. أنتم ممثلون للشعب، وهذا مطلب شعبي واجب التنفيذ. وتاعبين نفسكم ليه.. كان ممكن تدوني مكالمة تليفون وأنا أنفذ على طول.. بس خالد الغندور مش عندنا.. ده في (دريم).. و(دريم) مش بتذيع من هنا، عندها استديوهاتها في مدينة (دريم).. لكن بالنسبة لشوبير ومدحت شلبي، خلاص.. علم وينفذ.

لم يجد شباب الألتراس شوبير وشلبي في مباني المحطة، الواقع أن شوبير كما أعلن بعدها، كانت قد وصلته تحذيرات من الذهاب إلى المحطة.. ترى، هل وصلت نفس التحذيرات إلى الأمن المصري من مصادره داخل الألتراس؟ ولماذا لم يحاول منعهم من اقتحام البوابة والمبنى؟ ولنفرض أن مدير المحطة كان من ذلك النوع من البشر (اللي واخدها جد) وقال لهم: أيها السادة.. أنا أحتج بشدة على دخولكم مكتبي بغير استئذان.. وألفت نظركم بكل لطف وهدوء إلى أنه ليس من حقكم إصدار أوامر لي في أي شأن من شؤون البرامج.. غير أنني على استعداد لأن أتلقى منكم مقترحاتكم لكي أقوم بدراستها وعرضها على رؤسائي.

لنفرض أنه قال لهم ذلك، ماذا كان سيحدث له وللمبنى والاستديوهات؟ طبعا، كانت الواقعة كلها ستنشر في صفحة الحوادث في جرائد الصباح مع عدة أسماء في صفحة الوفيات.

يا إلهي! ماذا أفعل أنا عندما أغضب الألتراس - أي ألتراس - بقصد أو بغير قصد؟ كل شخص قوي في مصر وكل جماعة، لديه الألتراس الخاص به والخاص بها، وهو ما يصنع توازنا للرعب بين الجميع يضمن العلاقات الودية بينهم، ولكن ماذا أفعل أنا بغير ألتراس يدافع عني ودولة تخف إلى نجدتي عندما يحاصرني الألتراسيون الآخرون؟

غير أني تمكنت من إبعاد هذا الخاطر المزعج عن ذهني، فأنا أكتب في جريدة «الشرق الأوسط» فقط، والسفارة الإنجليزية لن تعطي أي ألتراس تأشيرة لدخول إنجلترا لمحاصرة رئيس تحرير هذه الجريدة ومطالبته بفصل كاتب عنده، ارتحت لهذا الخاطر، غير أني مرة أخرى شعرت بالانزعاج عندما فكرت في احتمال وارد، وهو أن يحدث تحالف بين ألتراس الأهلي أو الزمالك في مصر وألتراس ليفربول، أو الآرسنال، وبذلك يستطيعون ممارسة نشاطهم في لندن. غير أني شعرت بالارتياح، حتى لو حدث ذلك، فستقوم الحكومة الإنجليزية بحماية هذه الجريدة وحمايتي، ليس لمسؤوليتها عن كل من يعمل ويقيم على أرضها، بل دفاعا عن الدولة.

كانت الدولة في مصر، هي المهزوم الوحيد في واقعة منع المذيعين من العمل في محطة «مودرن سبورت». ومع هزيمة الدولة في واقعة أو موقعة، تبدأ كل تنظيماتها الضامنة للحرية والقانون في السقوط، تاركة الساحة لسلطة الشارع وهي القوة الأساسية في مملكة الفوضى. عندما يصل الأمر إلى هذه النقطة، تتحول كل شعارات الدولة إلى ادعاءات لا دليل عليها.

سلطات الدولة الثلاث الشهيرة: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، تستمد فاعليتها من انفصالها وقدرتها على الفعل. أما سلطة الشارع، فهي تدمج هذه السلطات كلها في سلطة واحدة تحركها الرغبة فقط. سلطة الشارع أشبه بالبندقية ذاتية التعمير، لا أحد يحشوها بالطلقات، هي تصنع ذخيرتها بنفسها، وتعمر نفسها بنفسها، وتطلق النار على الهدف الذي تختاره.

مؤشر البوصلة في الدولة يشير إلى المصلحة العامة، ذات المؤشر في سلطة الشارع يشير إلى الشعور باللذة الناتجة عن العدوان وتحدي القانون. من حق الشارع أن يعلن طلباته ويظهرها بكافة طرق الإظهار، ولكن ليس من حقه أن يتحول إلى سلطة إصدار القرار. كان بوسع شباب الألتراس الوقوف في صمت أمام بوابة مدينة الإنتاج الإعلامي وهم يحملون اللافتات التي كتبت عليها ملاحظاتهم ومطالبهم، كانوا سيحققون نتائج أفضل بكثير، على الأقل كانوا سيحصلون على فرصة أكبر في الدفاع عن مطالبهم، غير أنهم لم يفعلوا ذلك، لأنه يحرمهم من الفعل الجالب للذة - لذة العدوان.. لذة المساهمة في هدم القانون والنظام، وهما من أهم أركان الدولة.

في مسرحية أوديب، يوجد وحش بجوار أسوار المدينة، يلقي ألغازا على المسافرين، إذا لم تعرف حل اللغز يلتهمك على الفور، هذا هو درس التاريخ، الدفاع عن أسوار المدينة يتطلب المعرفة - معرفة أن السماح بسلطة الشارع في التحكم في حياة البشر، هو أمر خطر للغاية على الدولة وعلى مواطنيها. وأنه عندما تنتهي سلطة الدولة أو تتعطل أو تتباطأ أو تأخذها سنة من النوم، تبدأ سلطة الشارع بالاستيلاء عليها لإشاعة الفوضى.. ترى، من منا يوافق على الفوضى؟