لماذا ينتخب اللبنانيون؟

TT

«غالبا ما يفوز المرشحون والمرشحون في الانتخابات.. لأن ناخبيهم يحرصون على التصويت ضد منافسيهم»

(فرانكلن بي آدامز)

هل تشعرون بأن ثمة انتخابات تبدو أعلى حرارة بكثير من الانتخابات الرئاسية الأميركية المطلة علينا بعد أقل من خمسة أسابيع؟

الانتخابات التي أقصد هي تلك المتوقعة في لبنان خلال ربيع 2013. وهي وإن كانت تفتقر أساسا لجوهر الديمقراطية المطلوب لأي انتخابات، وستكون مزورة سلفا في ظل احتفاظ أحد الأطراف التي ستخوضها بسلاحه.. تظل تجربة تستحق التوقف عندها مليا.

بادئ ذي بدء، يعتبر لبنان، على صغر حجمه، «ثرمومترا» للمناخ السياسي والأمني في المنطقة. وهو يشكل اليوم «خط الهدنة» بين إسرائيل وإيران، في حين يتوجب على شعبه أن يدرك حقيقة أنه غدا أشبه ما يكون بركاب حافلة مخطوفة. فلا إسرائيل تحترم للبنان حرمة أو سيادة... ولا إيران تتعامل مع لبنان على أنه بلد له أهله وناسه.

المسألة كلها مسألة «خانة» على رقعة شطرنج في لعبة إقليمية قاتلة يسودها التمويه والمناورات.

في هذه الأثناء ليس لدى اللبنانيين، على الرغم من طول باعهم في ممارسة فعل الانتخاب، أي فكرة عن الديمقراطية الحقيقية. وحقا، ثمة فوارق أساسية بين الاقتراع من حيث هو مجرد ممارسة... وبين الديمقراطية التي هي حالة تتلاقى فيها شروط الوعي السياسي والمحاسبة والمسؤولية، ناهيك من عنصر الصدق مع النفس ومع الآخرين.

هذه الأيام تغص صفحات الصحف اللبنانية وتزدحم نشرات الأخبار التلفزيونية بالمواقف والتنظيرات التي قد تترجم أي شيء إلا الرغبة الصادقة بديمقراطية حقيقة وتمثيل سياسي صحيح. أما الإيجابية الوحيدة وسط سيل السلبيات فهي أن بعض الأطراف باتت تتكلم «على المكشوف» عن إصرارها على تحرير الصوت الطائفي من دون مواربة ومثاليات كذابة. وبالفعل، جاء مشروع ما يسمى بـ«اللقاء الأرثوذكسي» - الذي لا ندري ما هي نسبة تمثيله لطائفة الروم الأرثوذكس - ليكسر المحظور... ويطالب علانية بأن تختار كل طائفة نوابها. الصراحة هنا بداية طيبة.

ردة الفعل المقابلة، وهي ليست جديدة على أي حال، جاءت كما هو متوقع من الثنائي الطائفي الشيعي حزب الله وحركة «أمل»... المستقوي بالسلاح و«المال الشريف» على باقي اللبنانيين، وعلى رأسهم رهائنه من أبناء طائفته. ومجددا كانت ذريعة «الثنائي» المسلح احترام الديمقراطية العددية التي لا تصح إلا بالتمثيل النسبي والدوائر الموسعة. ولمن لا يعرف التفاصيل، حيث يكمن «الشيطان» كما يقول المثل، أقول إن «الثنائي» الشيعي المسلح يصر على خوض الانتخابات وتأليف اللوائح ورسم حدود الدوائر الموسعة وفق هواه... بحيث يفيده النظام الانتخابي النسبي في اختراق الطوائف الأخرى، في حين يكفل له سلاحه منع أي صوت شيعي من تحدي هيمنته في مناطق نفوذه. وبالتالي، سيتمتع هذا «الثنائي» بأغلبية مضمونة في انتخابات مزورة قبل الإدلاء بأي صوت.

أكثر من هذا، يتهم «الثنائي» الشيعي خصومه بأنهم أصحاب نوازع طائفية، وهو الذي يتحكم بنسبة كبيرة من مقاعد المسيحيين مع حزب الطاشناق الأرمني اليميني، المرتبط بحزب الله من منظور إقليمي يستند إلى مصالح الطاشناق مع نظامي طهران ودمشق المعاديين تاريخيا لنفوذ أنقرة في المنطقة... ولا حاجة للتذكير بالعداء التاريخي الأرمني - التركي.

في المقابل، تنقسم الساحة المسيحية التي لا يزيد ثقلها الانتخابي، وفق الإحصائيات الجدية التي يعتد بها، إلى ما بين 30 و38 في المائة إلى معسكرين، المعسكر الأول يضم المسيحيين المحازبين والمؤيدين لـ«تجمع 14 آذار» المناوئ لمحور طهران – دمشق والذي يحظى بأغلبية كبيرة من المسلمين السنة والدروز، والمعسكر الثاني الذي يضم المسيحيين المحازبين والمؤيدين لـ«تجمع 8 آذار» المرتبط بطهران ودمشق، ويتمتع بدعم غالبية الشيعة والأرمن.

مسيحيو 14 آذار يميلون إلى الدوائر الفردية أو الدوائر المصغرة (3 مقاعد على الأكثر)، باعتبار أن هذه الدوائر «تحرر» الصوت المسيحي من تأثير الصوت المسلم – شيعيا كان أم سنيا أم درزيا - في حين يؤيد النائب ميشال عون، وكيل حزب الله في الشارع المسيحي، طرح «الثنائي» الشيعي الذي تبنى في الأساس صيغة التمثيل النسبي. وعون، يأمل هذه المرة أيضا – على الرغم من محاولته المزايدة والتفلت، متسربلا بعباءة البطريرك الماروني بشارة الراعي - أن تحمله الأصوات الشيعية والأرمنية إلى البرلمان... مع كتلة لا يستطيع جمعها من دون أصوات الشيعة والأرمن.

اعتراض «الثنائي» الشيعي على طرح مسيحيي 14 آذار يقوم على ذريعتين: الذريعة الأولى هو أنه يزيد التعصب الطائفي ويضمن فوز المرشحين المسيحيين المزايدين والأكثر تعصبا... قاطعا الطريق على منافسيهم المعتدلين الذي يؤمنون بالعيش المشترك مع المسلمين. والذريعة الثانية أنه يناقض نصوص «اتفاق الطائف» الذي ينص على أن تكون المحافظة هي حدود الدائرة الانتخابية بعد إعادة النظر بالمحافظات الحالية.

هاتان الذريعتان، من حيث المبدأ، صحيحتان. صحيح أن الدائرة الصغيرة تعزز موقف الصوت المتعصب، وصحيح أنها تناقض نص «اتفاق الطائف». غير أن «الثنائي» الشيعي يتناسى في هذا الشأن حقيقتين أخريين مقابلتين.. الحقيقة الأولى أن «الثنائي» الشيعي المسلح يجسد في ذاته أكبر وأقوى تكتل «طائفي جدا» في لبنان، وبالتالي هو آخر من يحق له أن يحاضر في التسامح الديني والمجتمع المدني والعيش المشترك. والحقيقة الثانية أن «اتفاق الطائف» شدد صراحة على رفض كل ما من شأنه المس بروح العيش المشترك، وهذا يعني بالضبط منع مصادرة طائفة قرارات طوائف أخرى، سواء بقوة العدد أو السلاح أو الدعم الإقليمي.

المشكلة الحقيقية مع الدائرة الفردية والدوائر الصغرى، هي أنها ستعكس التفاوت السكاني بصورة صارخة. ذلك أنه إذا اعتبرنا أن نسبة المسيحيين في لبنان راهنا تقارب الثلث مقابل الثلثين للمسلمين، وأن المقاعد النيابية موزعة مناصفة – أي بالتساوي – فهذا يعني أن معدل الأصوات التي سيحصل عليها النائب المسلم لدخول البرلمان لا بد أن تكون ضعفي عدد الأصوات التي سيحصل عليها النائب المسيحي. وهذا واقع قد يخدم جماعات مسلمة متشددة ستطالب مستقبلا برفع الغبن التمثيلي. وكان أحد الساسة اللبنانيين المحسوبين على دمشق قد قال قبل فترة، فعلا، إن «المناصفة ليست حلا يصلح لكل الأوقات. فهل ستظل مقاعد البرلمان توزع مناصفة إذا صارت نسبة المسلمين 80 في المائة مقابل 20 في المائة للمسيحيين؟».

الحل الوحيد، بعيدا عن المزايدات المتعصبة، هو الحل الذي اقترحه «اتفاق الطائف» لكنه أساء توقيت إقراره. وهو يقوم على أساس إنشاء مجلس للشيوخ تتساوى فيها الطوائف وتنتخب أعضاءه الطوائف وتحتفظ فيه بحق «الفيتو»، مقابل وجود مجلس نواب لا طائفي يصار إلى انتخابه بأي حجم وأي شكل عبر التمثيل النسبي، وهذا، بجانب نظام اللا مركزية الاذارية، يعد بمستقبل خال من الظلم والخوف والغبن... وتلعب فيه أحزاب المجتمع المدني المطلبية دورا محوريا في تلبية الطلبات اليومية للمواطن وتشعره بقيمة مواطنيته.

هذا هو الحل الوحيد، أما المبادرات الأخرى فمبادرات تخديرية ومزايدات طائفية... كل ما ستفعله تأجيل موعد الانفجار المحتوم.