سلمان رشدي وابن رشد!

TT

لا يساورني أي شك في أن السؤال الجوهري التالي قد راود أذهان الكثيرين غيري: ما الشيء المشترك بين ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الكبير، وسلمان رشدي؟ أثناء قراءتي لكتاب سلمان رشدي الأخير «جوزيف أنطون: مذكرات»، لفتت انتباهي الفقرة التالية:

«وكان والده (أي والد سلمان رشدي) - وهو عالم إسلامي حقيقي كان هو الآخر بعيدا عن الإيمان الديني - قد اختار لقبه رشدي تقديرا لابن رشد الذي كان في صدارة أنصار النقاش العقلاني ضد الحرفية الإسلامية في زمنه، ومرت 20 عاما أخرى قبل أن تردد معركة الآيات الشيطانية في القرن العشرين أصداء ذلك النقاش الذي يصل عمره إلى 800 عام» (الصفحات 23 و54).

وفي هذه الفقرة القصيرة، يمكن ملاحظة بعض الادعاءات الخطيرة، وباختصار فإن سلمان رشدي يتخيل نفسه ابن رشد الجديد، وأن روايته هي نفسها كتب ابن رشد التي ألفها قبل 800 عام. فماذا نقول؟

لقد روى الرومي قصة غريبة تمتلئ بالطرفة والفكاهة:

كان أحدهم يقول عند الاستنجاء: اللهم أرحني رائحة الجنة. فقال له أحدهم: لقد قلت دعاء طيبا، لكنك ضللت فتحة الدعاء. فإن كان هذا الدعاء هو ورد الأنف، فكيف نقلت ورد الأنف إلى المؤخرة! (الشعر المثنوي، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، الكتاب الرابع، 2221 – 2224).

وأنا مقتنع بأن العلاقة بين روائي تمتلئ كتاباته بالتجديف والخبائث وفيلسوف عظيم تزخر مؤلفاته بالحكمة والقيم الإنسانية مثل ابن رشد - تشبه كثيرا العلاقة بين النار والجنة. فمعرفة سلمان رشدي بابن رشد ضعيفة وساذجة للغاية، ولو كان قد اطلع على كتاب «مناهج الأدلة» لما كتب تلك الفصول عن نبينا محمد، حيث أشار إليه باسم ماهوند في كتابه «آيات شيطانية»، وجوهر نظرية ابن رشد عن نبينا وعن الوحي يتعارض تماما مع آراء سلمان رشدي التي عبر عنها في كتابي «آيات شيطانية» و«جوزيف أنطون».

وهناك، لحسن الحظ، طبعة ممتازة من كتاب «مناهج الأدلة»، مصحوبة بمقدمة عميقة للدكتور محمد عابد الجابري، الذي اعتمد طريقة عقلانية كي يوضح أولا التصنيف العقائدي مثل الوحي، ثم يدافع عن الفكرة التي طرحها بأسلوب واضح، بينما على العكس فإن سلمان رشدي في كتابه «آيات شيطانية» لا يؤمن بأن القرآن كتاب سماوي. ويقول ابن رشد: إن الصنف الذين يسمون رسلا وأنبياء معلوم وجودهم بنفسه، وإن هذا الصنف من الناس هم الذين يضعون الشرائع للناس بوحي من الله، لا بتعلم إنساني، وذلك أنه ليس ينكر وجودهم إلا من ينكر وجود الأمور المتواترة، كوجود سائر الأنواع التي لم نشاهدها والأشخاص المشهورين بالحكمة وغيرها، وذلك أنه قد اتفقت الفلاسفة وجميع الناس.... (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988 بيروت).

وفي كل صفحة من صفحات هذا الكتاب وغيره من الكتب التي ألفها ابن رشد، يمكننا أن نرى الكثير من غذاء الفكر والعقل، أو بعبارة أخرى فإن الكلمات لا تعبر عن الوزن الهائل الذي يتسم به الفكر والحكمة اللذان قدمهما ابن رشد، ولهذا لا يمكنني أن أفهم حقا كيف أمكن لسلمان رشدي أن يقارن نفسه بابن رشد! وبالإضافة إلى ذلك، فقد اختار اسم جوزيف من جوزيف كونراد، واسم أنطون من أنطون تشيخوف، وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى، ففي حياة كل من الكاتبين الكبيرين المذكورين كونراد وتشيخوف، وفي جميع كتبهما الرائعة، لا يوجد تعبير واحد يهين السيد المسيح أو المسيحية، مما يجعلني أتصور أن سلمان رشدي بعيد كل البعد عن أنطون تشيخوف. ففي آخر مسرحياته بعنوان «بستان الكرز» (1904)، يستعين تشيخوف بقصيدة تبين أن المسيح يمكنه إعادة الجمال والكرامة والمعنى والحياة إلى نفسه وإلى الآخرين، كما تصف القصيدة تأثير المسيح على مريم المجدلية: «خرت وسط دموعها ووضعت وجهها على الأرض أمام قدسية المسيح».

وجوزيف كونراد - وهو الكاتب المفضل لدى سلمان رشدي - لم يكن إنسانا متدينا أو مؤمنا، ويمكننا أن نجد بعض الكلمات الساخرة في كتبه، إلا أنه لا يوجد مثال واحد يهين فيه المسيح أو المسيحية، مما يبين أن هناك خطا واضحا يفصل بين الإهانة والكتابة النقدية، ومن المستحيل العثور على مثال واحد على إهانة تشيخوف أو كونراد للسيد المسيح. ورغم أنني لا أريد الاستشهاد بكتاب «آيات شيطانية» أو بأي كتب أخرى من كتب سلمان رشدي، فأنا أريد التأكيد على أنني أرى أن محاولة سلمان رشدي المستميتة لمقارنة نفسه بابن رشد وأنطون تشيخوف وجوزيف كونراد، لا تصدق بل ومضحكة أيضا.

والفصل السابع من كتاب لودفيغ فيتغنشتاين الكلاسيكي «تراكتاتوس» (أي «المبحث» باللاتينية) لا يتضمن سوى عبارة واحدة قصيرة تقول: «ما لا نستطيع الكلام عنه يجب أن نتجاوزه في صمت».

وهذه العبارة القصيرة تحتوي على حكمة عظيمة، فسلمان رشدي لا يعلم شيئا عن الإسلام ولا عن مفهوم الوحي، وعندما يحاول التطرق إلى الوحي، يدعي أن والده كان عالما إسلاميا حقيقيا (ص 23)، ومع ذلك فهو يعترف لاحقا بأنه عندما توفي والده لم يعثر على أي نص من النصوص ضمن أوراقه، وأن السنوات الأخيرة من حياته قضاها بين شرب الخمر والإخفاقات التجارية، ولم يكن لديه وقت أو استعداد يذكر للاضطلاع بمشقة البحث العلمي القرآني المتعمق. (ص 25)

والآن، لنرجع إلى عبارة فيتغنشتاين الأخيرة في كتابه «تراكتاتوس»، فسلمان رشدي يمكنه أن يؤلف رواياته وأن يتربح منها دون أن يسيء إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد، لكن الحقيقة هي أن من يستعملون كلمات مسيئة للآخرين يواجهون أزمة داخل نفوسهم، فنحن نعلم مثلا أن الفيلسوف البريطاني العظيم أشعيا برلين ذكر في حوار أجراه معه الباحث الإيراني رامين جاهانباغلو:

«أنا لست متدينا، لكنني أعطي قيمة عالية لتجربة المؤمنين الدينية... أعتقد أن من لا يفهمون ما يعنيه التدين لا يفهمون ما يحيا به البشر، ولهذا فإن الملحدين الجامدين هم في نظري عمي وصم عن بعض أشكال الخبرة الإنسانية العميقة، ربما تكون الحياة الداخلية، وأنا أشبه هذا بالعمى الجمالي».