الديمقراطية العراقية حبلى بصدام جديد

TT

«لن أكون رئيس وزراء يؤدي وظيفة شرطي المرور». «إذا لم يكن رئيس الوزراء قويا، فسيغدو ريشة في مهب الريح». هذه هي فلسفة نوري كمال المالكي، في حكم العراق منذ ست سنوات. ومأساة العراق المعاصر تكمن في أن فلسفة القوة، نهجها كل من سبقوا المالكي، بدءا من نوري السعيد. فقاسم. فعارف. فصدام.

الرجل عنيد. سريع الغضب. كئيب. مناور. خسر المالكي حلفاءه الذين وصفوه بأنه «صادق. ونزيه». ولم يكسب أعداءه. لكنهم كلهم باتوا يخشونه. فالديمقراطية العراقية غدت حبلى بصدام جديد.

المالكي رجل سياسة. فهل هو أيضا رجل دولة؟ هو يقول إنه أقام «دولة القانون». فجمع في حوزته وقبضته، ما كان لصدام من سلطات وصلاحيات. المالكي اليوم قائد عام لجيش يضم مائتي ألف جندي. المالكي يدير، هو شخصيا أو عبر وكلاء مخلصين، وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني، بعدما رفض توزير مرشحين قدمتهم كتلة «العراقية» صاحبة التجمع النيابي الأكبر. بل هو أيضا يدير كتائب اعتقال، وسجونا سرية تحتوي معتقلين يحملون أرقاما بلا أسماء.

ما هي إنجازات وإخفاقات نوري المالكي؟ أنجز المالكي محاكمة صدام وإعدامه. وحكم ويحكم عراقا بقبضة من حديد. وحاكى صدام، في تشكيل طبقة إدارية بالية. بلا كفاءة ودراية. ومتهمة بقضايا فساد.

نوري المالكي مخلوق سياسي محترف. مناور. يجيد فن المساومة والتسوية. بارع في تحييد المنافسين من ساسة ورجال دين. ورث منصبه من إبراهيم الجعفري رئيس حزبه (الدعوة) وأحبط كل المحاولات لإزاحته. ونجح في إحباط المحاولة الأميركية لتشكيل «مجلس سياسي» برئاسة منافسه اللدود إياد علاوي.

العراق بحاجة إلى حكم أكثر من حاجته إلى حاكم. بحاجة إلى وسيط يهدهد طموحات الساسة. والطوائف. والأعراق، كما فعل الملك الراحل فيصل الأول مؤسس العراق المعاصر (1921). المالكي فشل في أداء هذا الدور، بسبب عدائه الظاهر والمستتر للسنة الذين أسسوا، منذ الفتح الإسلامي، العراق التاريخي. العراق العربي الذي شكل الجدار الشرقي الحامي للأمة العربية.

رفض المالكي استيعاب قوات «الصحوة» السنية في الجيش والشرطة، بعدما لعبت الدور الأكبر في تحييد الإسلام الجهادي (القاعدة). كما رفض استيعاب طبقة التكنوقراط والبيروقراط السنة، في الإدارة الحكومية، بعد فشل أطر حزب الدعوة في إدارتها، بنزاهة وشفافية.

سيطرة المالكي على أجهزة الأمن والجيش لم تضمن سلاما واستقرارا لنظامه. عادت التفجيرات لتروع مدن العراق شمالا وجنوبا، مما يدل على أن هذه الأجهزة مخترقة، الأمر الذي اضطره إلى العودة - كما يقال - إلى الاستعانة بضباط من متقاعدي الجيش العراقي الذي تم حله، بقرار أميركي كارثي.

عدم نجاح المالكي في حكم عراق آمن ومستقر سياسيا، يحاكي عدم نجاحه في لعب دور إقليمي نافذ كان يطمح إليه. السبب إقصاؤه سنة العراق عن المشاركة في الحكم والقرار السياسي. غضت الدول العربية الطرف عن موقف المالكي السلبي. فمنحته فرصا سياسية متعددة للعب دور عربي متوازن في المنطقة. فانعقدت قمة عربية في بغداد. وعاد بعض السفراء العرب إلى العاصمة العراقية. غير أن المالكي لم يعرف كيف يستفيد من هذه الفرص.

إذا انطوى نظام المالكي على كل هذه الإخفاقات الداخلية والخارجية، فكيف استطاع أن يحكم العراق، وما زال، منذ عام 2006؟ الجواب يكمن في قدرته على إقامة علاقة منحازة إلى إيران، من دون أن يخسر، للدهشة والغرابة، علاقته الوثيقة بإدارتي جورج بوش. وباراك أوباما!

الواقع أن الزعماء الشيعة الذين ساهموا في توريط إدارة بوش في غزو بلدهم، عبر العلاقة التي أقاموها مع شلة الساسة اليهود الأميركيين المخلصين لليمين الإسرائيلي الذين أحاطوا بدونالد رامسفيلد وزير الدفاع آنذاك، هؤلاء الزعماء ما زالوا قادرين باستمرار، على إقناع إدارة أوباما، بأن علاقة العراق الوثيقة مع إيران، لا تشكل تهديدا، لمكانة ونفوذ أميركـــــا في المنطقة العربية!

الغريب أن جوزيف بايدن نائب أوباما الممسك بملف العراق، ما زال يراهن على المالكي الذي يلعب أحيانا دور الواشي والشاكي من إيران. وثائق «ويكيليكس» فضحت هذا الدور. يقول كريستوفر هيل السفير الأميركي السابق في العراق، في إحدى برقياته إلى واشنطن: «أبلغني المالكي بأن إيران تستغل نفوذها ومالها، للتحكم بالبرلمان العراقي. وهي مستعدة لتزويد المسلحين الشيعة بالسلاح». وفي برقية أخرى، يقول السفير إن إيران توظف مائة إلى مائتي مليون دولار سنويا في شراء ولاء التيارات الشيعية المتناحرة.

عبر هذا الغباء الأميركي، تمكنت إيران من استيعاب العراق، وحرمان المالكي من لعب أي دور عربي وإقليمي منافس لها. فضيحة الجسر الجوي والبري الإيراني، عبر عراق المالكي، لإمداد نظام بشار، بأطنان يومية، من العتاد. والسلاح. والرجال، دليل على أن العراق بات مدرجا في صميم جبهة «المقاومة والممانعة» التي أقامتها إيران، لاختراق المشرق العربي.

استفادت إيران من موجة العنف في العالم الإسلامي ضد الفيلم الأميركي البذيء المعادي للإسلام، في ركوب هذه الموجة، للتغطية على وهج الثورة المسلحة ضد نظام «زلمتها» بشار. ثم أخرجت الملا حسن حزب الله من مخبئه، ليقول إن الفيلم أعظم من الثورة السورية، فيما طالب عدنان منصور «وزير خارجية» الحزب في حكومة نجيب ميقاتي مجلس جامعة نبيل العربي، بالاجتماع فورا، لمساندة الاحتجاج الشعبي ضد إدارة أوباما.

من سوء حظ نوري المالكي أن «جبهة الممانعة» التي انضم إليها، بدأت تعاني من نكسات حادة: ثورة لاهبة ضد الأسد حليف إيران الذي فقد مشروعيته وأهليته للاستمرار. انفصال حماس عن الجبهة.

تحدثت، في ثلاثاء الأسبوع الماضي، عن خطأ الرئيس المصري الشيخ محمد مرسي في دعوة إيران للمشاركة في صنع القرار العربي، وفي صميم قضايا الأمن القومي، كمحاولة العثور على تسوية في سوريا. فقد كان مقررا عقد اجتماع في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للجنة الاتصال الرباعية (مصر. السعودية. إيران. تركيا). لكن الاجتماع لم يعقد. غابت السعودية. لم يحضر أردوغان. حضر فقط أحمدي نجاد بحكم وجوده في نيويورك، فاضطر مرسي لإلغاء الاجتماع ولم يحدد موعدا للقاء آخر، لا سيما بعد أن دعت عدة دول عربية إلى تشكيل قوة عربية للتدخل في سوريا. وواضح أن دعوة إيران في المشاركة في صنع القرار العربي لم تلق قبولا عربيا.