تعارض أهداف مصر السياسية مع مصالحها الاقتصادية

TT

عندما نزل الشباب المصري إلى ميدان التحرير في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، كان القضاء على البطالة وتحسين مستوى المعيشة من أهم المطالب التي نزلوا من أجلها. ورغم ما أعلن عنه الرئيس مرسي من مشروع لتحديث الاقتصاد المصري، فإن صورة الوضع الاقتصادي المصري لا تبدو مشرقة هذه الأيام. ومع أن مصر قادرة على مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية وتحسين مستوى المعيشة، لكن الأهداف السياسية للحكومة الجديدة تقف عقبة في سبيل الوصول إلى تحقيق هذا المطلب.. ذلك أن المواقف السياسية للحكومة الجديدة تبعدها عن أصدقاء مصر التقليديين، سواء في الخليج العربي أو في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية.

وهناك تناقض واضح بين السياسة التي تتبعها الحكومة المصرية الجديدة وما ترغب في تحقيقه من نمو اقتصادي، فبدلا من العمل على إعادة الأمن إلى المجتمع المصري وطمأنة السياح والمستثمرين الأجانب على استقرار الأوضاع في مصر بعد الثورة، قام وزير الداخلية في الحكومة بإحالة نحو 400 من قيادات الشرطة والقيادات الأمنية إلى المعاش، مما أفقد رجال الشرطة القدرة على التعامل مع الاضطرابات الأمنية، وجعلهم غير قادرين على إقرار الأمن في البلاد.. فمصر بلد يمثل قطاع السياحة فيه 9 في المائة من الدخل القومي، وقد وصل دخلها من السياحة في العام السابق للثورة إلى أكثر من 8 مليارات دولار، لكن هذا الدخل انخفض لأكثر من النصف بعد الثورة بسبب الانفلات الأمني.

ومع هذا فلا يبدو أن حكومة هشام قنديل - التي تعتبر نفسها حكومة الثورة - قد وضعت برنامجا محددا لإنعاش الاقتصاد المصري والخروج من الأزمة الخانقة التي تواجهها البلاد بأسرع وقت ممكن.. فبعد أن حقق الإنتاج القومي زيادة نسبتها 5 في المائة قبل الثورة في 2010، وصل هذا العام إلى 1.8 في المائة فقط. وقال ممتاز السعيد - وزير المالية المصري - إن بلاده تحتاج إلى اقتراض نحو 10 مليارات من الدولارات لسد عجز الموازنة. ومنذ قيام الثورة حتى الآن فقدت مصر نحو نصف احتياطها من العملة الصعبة، فبعد أن كان لديها 36 مليار دولار في 2010 صار الآن 15 مليارا فقط، وهو يكفي لسد احتياجات البلاد لمدة ثلاثة أشهر فقط. كما وصل العجز في الموازنة هذا العام إلى نحو 10 مليارات دولار، ووصل العجز في الميزان التجاري - أي الفرق بين قيمة ما تشتريه مصر من الخارج وما تبيعه - إلى 11.3 مليار دولار. وانخفضت الاستثمارات الخاصة بنسبة 20 في المائة، كما ازداد الدين الخارجي بنحو 4 في المائة، فوصل إلى 34.9 مليار دولار، بينما تدل المؤشرات الاقتصادية على تراجع نمو الاقتصاد المصري وتزايد الإضرابات والاحتجاجات الفئوية، خاصة بعد زيادة أسعار الغذاء محليا نتيجة لزيادة الأسعار العالمية.

وفي محاولة منها لمواجهة عجز الموازنة تقدمت مصر بطلب قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 4.8 مليار دولار، ولا يعلم أحد كيف ومتى يتم الاتفاق على هذا القرض الذي تبدأ المفاوضات بشأنه في الشهر المقبل. كما قام وفد من رجال الأعمال الأميركيين بزيارة القاهرة، للبحث في إمكانية المساهمة في عمليات الاستثمار في الاقتصاد المصري، إلا أن بيئة الأعمال في مصر لا تزال تحتاج إلى العديد من الضمانات لطمأنة المستثمرين المصريين والأجانب على حد سواء.. فإلى جانب ضرورة استقرار الأمن، يجب حل المشاكل والقضايا مع المستثمرين وتحديد آلية لضمان عدم إصدار قوانين في المستقبل تطبق عليهم بأثر رجعي.

وأصيب الاقتصاد المصري بضربة أخرى عندما تراجعت الولايات المتحدة عن قرارها بتقديم مساعدات عاجلة لمصر.. فقد قررت الإدارة الأميركية وقف المفاوضات مع مصر المتعلقة بتقديم مساعدات مالية عاجلة، بسبب المظاهرات المعادية لها في القاهرة والتي رفع فيها بعض المتظاهرين المصريين أعلام «القاعدة» على مبنى السفارة، ووقف قرار الرئيس أوباما بإعفاء مصر من مليار دولار من ديونها. ويبدو أن الإدارة الأميركية عازمة على عدم إقرار مساعدات اقتصادية جديدة لمصر إلا بعد انتهاء انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

وبمناسبة سفر الرئيس محمد مرسي إلى نيويورك لحضور افتتاح الدورة الـ67 للجمعية العامة للأمم المتحدة، طالب الرئيس المصري الإدارة الأميركية بتعديل أسلوب تعاملها مع العالم العربي بشكل جذري، بحيث تعمل على إقامة الدولة الفلسطينية التي اعتبرها تمثل النقطة المركزية في علاقة العرب بأميركا. وبينما تتصاعد تهديدات الحرس الثوري الإيراني لدول الخليج العربي ويحبس الجميع أنفاسهم توقعا لحرب مدمرة لضرب مفاعلات طهران النووية، اعتبر مرسي أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع الحالي في الشرق الأوسط. وفي حوار له مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، اعتبر مرسي أن أميركا ملزمة بإقامة حكم ذاتي فلسطيني بمقتضى معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، ملوحا بأن التزام مصر بمعاهدة السلام يتوقف على حل أميركا للقضية الفلسطينية. وكان مرسي قد طلب لقاء الرئيس أوباما أثناء وجوده في الولايات المتحدة، لكن الرئيس الأميركي لم يتحمس لهذا اللقاء، خاصة بعد امتناع الرئيس المصري عن إدانة الهجوم على السفارة الأميركية في القاهرة، حيث رفع المتظاهرون صورة بن لادن وأعلام «القاعدة».

على الحكومة المصرية أن تختار الآن بين طمأنة المستثمرين على حياتهم وأموالهم في مصر، وبين محاولة إخضاع أجهزة الدولة لقراراتها، وعليها أن تختار بين العودة إلى مركز القيادة في العالم العربي الذي يواجه أخطارا محقة في الخليج، وبين محاولة إعادة الصراع العربي - الإسرائيلي إلى الواجهة في المرحلة الحالية.