النملة لا تبكي على اللبن المسكوب!

TT

قرأت الكثير عن قدرات النمل العظيمة وإصراره، حتى رأيت أمس بأم عيني حجم الإصرار العظيم الذي تتحلى به نملة كانت تحاول أن تتسلق جدارا كبيرا إلى جانبي نحو 21 مرة خلال 7 دقائق لتناول ما يبدو أنها بقايا طعام عالق. فكانت كلما ارتفعت قليلا نحو هدفها سقطت على الأرض، ثم تعيد الكرة بسرعة وحماسة وإصرار عجيب، وقد صورت ذلك بهاتفي الجوال وأرسلته إلى متابعي في موقع «تويتر».

هذه اللقطة ذكرتني أيضا بفيديو أرسلته عن جماعة من النمل تحاول عبور نهر فصنعت لها ما يشبه القارب بالتفافها حول قطعة ما صغيرة للعبور وهي متماسكة اليدين والرجلين حتى وصلت جميعا إلى بر الأمان. ليس هذا فحسب؛ فالعلم الحديث يؤكد أن النملة تتصف بصفات عديدة كالتخصص، والمثابرة، والعمل الجماعي، والإيثار، فضلا عن حسن النظام حتى في أزحم مستعمراتها.. فهي لا تعلق همومها على شماعة الازدحام المروري في مملكتها؛ بل تبتكر ما في وسعها من حلول إبداعية لحل مشكلاتها؛ منها ما اكتشفه العلماء أخيرا، وهو أن من يقود طابور النمل لوحظ أنه يضع سوائل أو روائح على الأرض ليهتدي بها النمل السائر خلفه حتى يصل الأتباع إلى هدفهم ولا يتصادموا مع الخطوط الأخرى التي تسير إلى جانبهم، وكأنهم في طريق سريع للسيارات!

ومن الأمور اللافتة، أن النمل لا يبكي على اللبن المسكوب كحالنا، فإذا ما تغلغل الماء إلى مخزونه من الحبوب، سارع بإخراجه إلى سطح الأرض بعد تحري يوم مشمس ليجفف ما أصابه البلل، ويرجعه إلى باطن الأرض فور انتهاء عملية التجفيف التي يشرف عليها بنفسه. وهو أيضا يحسن التدبير لأنه يخزن طعام الشتاء في الصيف وطعام الصيف في الشتاء، ربما لكي لا يكون عالة على المخلوقات الأخرى! وهذا يذكرني بحال بعض الناس ممن ينفق كل ما لديه ثم يضطر إلى أن يمد أكف الضراعة لمن حوله ليستجدي عطفهم، سواء كانوا بنوكا أم أفرادا، ناسيا أن المشكلة في ضعف تدبيره.

هذه النملة الصغيرة التي تدور من حولنا ولا يكاد يتجاوز دماغها حبة ملح مسحوقة، تضرب لنا أمثلة عملية بمثابرتها وإصرارها على أن الحياة رحلة مستمرة من المحاولات والنجاحات والإخفاقات، فهي بالفعل تصور لنا بيومياتها مشاهد تستحق التأمل، وربما هذا ما دفع متاجر ألمانية إلى بيع النمل في قوالب زجاجية مفروشة برمال ليتأملها الناس، وأصدر الألمان قانونا يحظر قتل النمل بإبادة جماعية، وصار التخلص منه يحتاج إلى الحصول على ترخيص خاص. وبعد ذلك كله، أدركت مغزى نهي النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة، التي ترسل برسائل تشجيعية للإنسان الكسول والمحبط.. تهمس في أذنه بأن لا يبكي على اللبن المسكوب!

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]