صور من الهلال الخصيب

TT

كيفما تطلعت هذه الأيام لا أرى أمامي سوى مشاهد من «الهلال الخصيب». سهول خضراء وجبال خضراء وشجر مثقل بثمار الخصب. من حدود سوريا مع لبنان إلى حدودها مع تركيا إلى حدودها مع العراق. شجر وثمر وخصب. وقد سمى البريطانيون هذا الجزء من الأرض «الهلال الخصيب» تمييزا لها عن جوارها الصحراوي القاحل والصعب والفائق الحرمان من المطر.

ورأى الحزب السوري القومي الاجتماعي في هذه المنطقة أرض الخصب والأساطير، وسماها «سوريا الكبرى»، وأدار نظره عن الصحراء والبدو، وحلم بوحدة سوريا لا يشوبها وجود «البدوان». ولما جاء عبد الناصر رأى في سوريا أكثر وأبعد من ذلك. إنها «قلب العروبة النابض»، ومستقر وحدتها، ومنطلق حركتها القومية نحو المستقبل. وحاربه السوريون القوميون وحاربوه. وحاربهم حزب البعث وقاتلوه. فما معنى العروبة أمام خصب هذه الأرض.

لم نرَ هذا الخصب في آفاقه وجماله كما رأيناه في الأشهر الأخيرة. مشاهد كأنك على الحدود بين ألمانيا والنمسا. خضرة كأنك تعبر من ألمانيا إلى تشيكيا. ولكن ثمة مشكلة واضحة في الصورة: الخيام تخفي الشجر، وعويل الأطفال يخفي الخضرة، والوحل يغرق أقدام الخصب. و«سوريا الكبرى» تتمزق قطعا قطعا إلى كل فريق. وكم من أمثولة أعطانا الإخوة السوريون في أصول المواطنة وشروط الحس القومي. وكم تكبد السيد النائب عبد الحليم خدام مشقة السفر إلى لبنان لكي يعلمنا ماذا يحق لرئيس الجمهورية أن يفعل وكيف لا يحق لرئيس الوزراء أن يعترض.

ولم تكن محاضرات السيد النائب في الشأن القومي تقتصر على الشقيق الأصغر القابع في انتظار الأوامر والتقريع والتأنيب، بل كانت تلقى في مصر وعند كبار الأشقاء، وخصوصا العراق، الذي أعطى أكبر الدروس في الشقيقية والأخوة. مرة يقطع المياه عن سوريا، ومرة يرسل من يغتال خدام في الإمارات فيقتل بدلا منه سيف الغباش، الذي كان أحد وجوه المستقبل في الخليج، وأحد أذكى القراء العرب وأطيبهم.

الخيام تخفي خضرة الهلال الخصيب. والمطر يوحل تربته. ووجوه الأطفال الذين كانوا يحلمون بوحدة تتقدم الأمم يحلمون بليلة غير باردة وغير ماطرة. وبألا يتأخر التركي حامل إعاشة الفطور في الصباح، حاملا معه أيضا الخبز المرسل من بلاد الصحراء التي حذفت من بلاد الخصب.