الدستور المغربي: تنزيلا وتفعيلا

TT

تنتظر البرلمان المغربي، في الدورة التشريعية المقبلة التي تنطلق بعد أسبوع واحد، المهمة الأساس التي تكتسب بها المؤسسة التشريعية العظمى ماهيتها (كما يقول الفلاسفة) وبالتالي يهب وجودها دلالة ومعنى: مهمة التشريع للقوانين العليا. وغني عن البيان أن هذه المسؤولية تغدو أشد وطأة إذ يتعلق الأمر بوجوب ترجمة المبادئ والكليات التي يعلن عنها الدستور المغربي (الذي لا يزال يحمل صفة الجدة) إلى تشريعات قانونية بها يكون قوام السلطة التشريعية ومنها تستمد الحياة السياسية السليمة نبض الحياة. ولو شئنا أن نستعير من فلاسفة السياسة الحديثة مفهوما دالا لقلنا مع مونتسكيو إن الدستور هو التعبير عن «روح القوانين» (=تلك التي تستمد منها القوانين ويكون استنباط أحكامها)، لقلنا إن الدستور هو المعنى الباطن الذي يقصده جان جاك روسو إذ يتحدث عن القانون من حيث أنه روح الحياة السياسية والتعبير الأسمى عن الإرادة العامة. وفي الخطاب السياسي المغربي الراهن، وفي منتديات الطبقة السياسية في المغرب، يكثر تداول لفظين متشابهين ومتقاربين غالبا مع يتم الخلط بينهما - ونحن نحسب أن من المفيد لحسن إدراك الجدل الذي يجعل من الدستور المغربي «الجديد» ومن آفاق عمله موضوعا له أن نتبين في بداية حديثنا اليوم طبيعة الفرق أو الفروق التي تقوم بين اللفظين. أما اللفظ الأول فهو: «التنزيل» (وهو ما جعلناه الموضوع الأساس لحديثنا في الأسبوع الماضي)، وأما الثاني فهو: «التفعيل». ولأمر ما، عسى أن نتبينه بعد قليل، تكثر أحزاب المعارضة من الحديث عن وجوب تفعيل الدستور، في حين أن الأحزاب التي تشكل الأغلبية (=الموالاة، كما يقول الإخوة في لبنان) تتحدث، بالأحرى عن لزوم «تنزيل الدستور».

ليس غرضنا، بطبيعة الحال، الدخول في جدل فقهي أو بسط القول في قضايا أكاديمية غير أن الجدل السياسي القائم اليوم في المغرب وكذا الأنظار المعلقة وترقب عمل المجلس التشريعي (بغرفتيه في المغرب) يستوجب من وقفة قصيرة بها يكون التمهيد ومنها يكون المدخل إلى قضية آفاق الدستور المغربي الذي تم إقراره في فاتح يوليو (تموز) من السنة الماضية.

تنزيل الدستور، من جهتي المنطق والسياسة معا، رتبة أعلى من التفعيل. فالتنزيل يعني استنباط القوانين العضوية (=التشريعية العامة) التي منها يكون استمداد القوانين التنظيمية مثل المساطر وما شابه ذلك - والاستنباط يكون من الدستور بطبيعة الأمر. أما التفعيل فهو العمل على تطبيق قوانين تم تشريعها، أي نقلها من حال التضمين التي توجد عليها في الدستور الذي تستمد منه تلك القوانين إلى حال التصريح والوضوح التام الذي لا يحتمل لبسا وإن كان في بعض الحالات يستوجب اجتهادا وإعمالا للعقل القانوني. تفعيل القانون يعني الدفع به في اتجاه العمل به مما قد يقتضي في الغالب سن أحكام عملية (=مسطرية). يصح القول، في هذا المعنى، إن تفعيل الدستور يستلزم، أولا وضرورة، تنزيله أي العمل على ترجمة مقتضياته ومبادئه إلى نظم وتشريعات عملية قابلة للتطبيق: بها يكون الاحتجاج عند الخلاف وبها يكون التقاضي أمام المحاكم - متى استوجب الأمر ذلك.

خارجا عن هذا التمييز اللفظي (والسياسي أيضا) يصح القول إن الحديث الذي يملأ الساحة السياسية في المغرب حاليا، ونقول مرة ثانية إننا نقدر أنه سيكون الشغل الأساس للسنة التشريعية التي ستهل بعد أيام قليلة، هو كيف التنزيل والتفعيل ومقتضياتهما وهو، قبل ذلك وتمهيدا ضروريا له، مجمل الشروط الواجب اجتماعها حتى يكون التنزيل والتفعيل ممكنين.

الرأي عندنا أن تلك الشروط ثلاثة أساسا.

الشرط الأول (الكافي والضروري، كما يقول المناطقة) هو توفر الإرادة السياسية الصادقة للعمل بموجب الدستور الذي تمت المصادقة عليه في ظروف سياسية جهوية ووطنية. هذا من جهة أولى، أما من جهة ثانية فهي الحرص الأكيد على الحفاظ على الروح التي تحكم مواد الدستور وتقوم بعمل البوصلة الموجهة، وبالتالي «الروح التشريعية» التي تم الاتفاق والتراضي على الاستمداد منها. أحسب أن عملا غير يسير لا يزال ينتظر كلا من قوى المجتمعين السياسي والمدني في المغرب في سبيل الإبانة عن تلك الروح. بعد الدعوة إلى المصادقة على الدستور وبعد إقراره تظل الحاجة إلى جهد تنويري بيداغوجي غير يسير بهدف الكشف عن الجهود النفسية الواجب بذلها من أجل التشبع بتلك الروح. وهذه المسألة جوهرية محورية، لا سبيل إلى الفعل مع انتفائها.

الشرط الثاني، وهو بدوره ذو طبيعة نفسية ثقافية، يتعلق بوجود الاستعداد أو غيابه عند القوى السياسية لقبول التغيير العميق الذي تحمله كثير من فصول الدستور ويفيض به التصدير (=الديباجة) ذاته. في الدستور «الجديد» ذكر كثير للمناصفة والمساواة في الحقوق السياسية والثقافية والبيئية والاجتماعية.. بين الرجل والمرأة. وفي الدستور إقرار للمحاسبة والمراقبة في مستويات شتى، وفيه تنوير لعمل الإدارة وأنماط إدارة الشأن العام، وأمور غير ذلك مشابهة مما يصطدم، عند التطبيق، بأنواع شتى من المقاومة والاعتراض إذ الشأن يتعلق بخلخلة ما ألفته الذهنيات واستكانت إليه النفوس أمدا بعيدا. وفي كلمة جامعة يصح القول إنه لا تغيير ممكن دون استعداد نفساني، ثقافي، اجتماعي لقبول التغيير. هنا تظهر الأدوار الكبيرة التي يقدر على النهوض بها المجتمع المدني، متى صدقت العزائم، مثلما يبرز (أو يختفي) الدور الموكول إلى الحزب السياسي من حيث هو كذلك.

الشرط الثالث يتعلق بالإرادة السياسية في معنى آخر، أو لنقل إنه يتعلق بالإرادة السياسية في معنى آخر لها - معنى يتصل بالأحزاب السياسية وبنائها وعملها. أقصد بذلك إرادة قبول الاختلاف السياسي والاعتراف بأن الوجود السياسي في العالم الحديث يقوم على الاتفاق والتراضي اللذين يفيدان وجود التنازع والاختلاف المبدئيين. هل نحن في حاجة إلى القول إن الدستور ذاته، أيا كانت الأمة التي يشرع لأحكامها السامية، تعبير عن وجود الاختلاف وقبول للاتفاق على جملة مبادئ وكليات بها يكون قيام الدولة وتحقق معنى كل من الأمة والسيادة - كل في مستوى وعلى نحو محدد.

يحق التساؤل الآن: ماذا ينتج عن كل هذا من الناحية العملية؟

يفيد المعنى المباشر لتنزيل الدستور المغربي «الجديد»، ثم تفعيله، التنظيم التشريعي لجملة المجالس الوطنية والمؤسسات التي يقرها الدستور وهذه ليست تقوم على الوجه الذي يريده هذا الدستور من حيث الروح التي توجهه إلا متى سبق التشريع لتلك المجالس والمؤسسات حوار وطني شامل. وسعيا نحو المزيد من التوضيح فنحن نقول إن المشاريع تكون، في المعتاد، نتيجة اقتراح تتقدم به الحكومة أو بمبادرة من المعارضة - وفي الأحوال كلها فهو يدور في أروقة الغرفة التشريعية ويقره البرلمانيون بحسبانهم يمثلون الأمة. لكن متى تعلق الشأن بإحداث مجالس وطنية (ولنأخذ، على سبيل التمثيل فحسب، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي)، يتعلق الأمر فيها بالبت في قضايا تكون لها خطورة قضايا التعليم والتكوين، أو خطورة مجلس وطني للغات والثقافة (والحال أن الدستور المغربي يقرر اللغة الأمازيغية، بجانب اللغة العربية لغة رسمية) فإن القضية تعلو على تشريع قانوني تبت فيه لجنة داخل البرلمان ومشروع قانون تبادر الأغلبية إلى طرحه أو تقدمه المعارضة للنقاش. إن الأمر يتجاوز ذلك كله فقرار من هذا الحجم يرقى إلى مستوى سام من التشريع يستوجب تنزيلا للدستور ثم سعيا إلى تفعيله - كما حاولنا أن نوضح الفرق بين الحالين. ومن ثم كان الحوار الوطني الشامل عملا واجبا ومقدمة لعمل التشريع والتقنين.