زوبعة في فنجان

TT

قد لا يلام أي متابع للجدل الحامي الدائر حاليا في بيروت حول قانون الانتخاب «الأنسب» للبنان إن هو تصور أن العملية الانتخابية في لبنان قادرة على نقل البلد من حال إلى حال – سواء أكانت أسوأ أم أفضل من سابقتها.

في قاموس التورية السياسية، التي برع اللبنانيون بها إلى حد الإبداع، ما يقصد اليوم بالقانون الانتخابي الأنسب لبلدهم هو القانون الذي يضمن استمرارية الأمر الواقع بأقل مساس ممكن للحصص الطائفية في «كعكة» الحكم.. رغم الصراع المذهبي – المستتر حينا والمكشوف أحيانا - على أحجام هذه الحصص.

منذ قام نظام التمثيل الطائفي في لبنان واعتبارات التوازنات الطائفية تتقدم على ما عداها من طروحات سياسية أو اجتماعية، وتكاد أن تحجبها كليا، الأمر الذي يعكسه فشل الأحزاب السياسية غير الطائفية في اقتطاع موطئ قدم يعتد به في أي برلمان انتخب بموجب كل قوانين الانتخاب التي عمل بها طيلة سنوات الاستقلال.

لماذا التشاحن حول قانون «النسبية» أو قانون الدوائر المصغرة أو «قانون الستين» طالما أن النتيجة النهائية للانتخابات ستكون تكريس التمثيل المذهبي للبنانيين وعودة زعماء الطوائف إلى الحكم، وإن بمسميات سياسية متنوعة أحيانا.

ولأن لبنان بلد «الأمر الواقع» بامتياز، والأمر الواقع المذهبي تحديدا، لماذا لا يختصر اللبنانيون معاناتهم الدورية جراء البحث عن قوانين انتخابية عصرية لا يسفر تطبيقها في بلدهم إلا عن عودة الزعامات الطائفية نفسها إلى مقاعد البرلمان، وإن بحصص متفاوتة؟

في ظل هذا الواقع – الأشبه بالقدر السياسي – لم يعد المطلوب للبنان نظام تمثيل انتخابي يستنسخ نفسه دورة بعد دورة مهما تبدلت قوانينه، بل نظام حكم يقرن التمثيل المذهبي بشكل من أشكال الشورى السياسية بحيث تشارك كل طوائف لبنان في صناعة القرار السياسي ولو بحده الأدنى.

على هذا الصعيد قد يكون نموذج مجلس «اللوبا جيرغا» (البيت الكبير) الأفغاني النظام الأنسب لهذه المرحلة مع فارق أساسي تفرضه طبيعة التركيبة اللبنانية، أي أن يكون مجلسا يضم زعماء الطوائف عوض زعماء القبائل، كما هو الحال مع المجلس الأفغاني.

وإذا كان الإشكال الذي سيطرحه هذا النظام هو تحديد هوية زعماء الطوائف – رغم أنهم معروفون من كل اللبنانيين – يصح عندئذ اللجوء إلى ما سمي «بالمشروع الأرثوذكسي»، أي توكيل كل طائفة لبنانية بانتخاب ممثليها بمعزل عن أصوات أبناء الطوائف الأخرى.

أما إذا كان اللبنانيون يأنفون أن يتمثلوا بتجربة شرقية – رغم فشلهم في تطبيق التجارب الغربية - فلا بأس عندئذ من اعتماد النظام الدستوري الأقرب إلى مفهوم «اللوبا جيرغا»، أي تشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف اللبنانية بالتساوي، ويكون، كمجلس اللوردات في بريطانيا قبل تأسيس المحكمة العليا، المرجع الدستوري الأعلى للقوانين.

على هذا الصعيد لا يحتاج اللبنانيون إلى أكثر من العودة إلى اتفاق الطائف الذي نص على تشكيل مجلس شيوخ في سياق التمهيد لإلغاء الطائفية السياسية من النظام اللبناني.

في وقت تلوح فيه ملامح تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ طائفية أصبح جمع الطوائف اللبنانية تحت سقف واحد، أي سقف مجلس الشيوخ، مطلبا وطنيا أكثر مما هو مطلب تمثيلي أو انتخابي.

وقد لا يكون من المبالغة في شيء القول بأن من شأن تساوي اللبنانيين على صعيد التمثيل الطائفي في مجلس الشيوخ قطع الطريق على محاولة طائفة ما أو مجموعة ما إلغاء الآخرين، وقطع الطريق أيضا على مسيرة تحول بعض أصحاب «اللحى السياسية» من رجال الدين إلى شريحة سياسية حاكمة. وغير خاف أن هذا التحول بات ظاهرة متنامية في لبنان، وما زال السياسيون التقليديون غافلين عن التنبيه إلى مخاطرها البعيدة المدى، ليس على العيش المشترك في لبنان فحسب بل على طابع لبنان التعددي أيضا.