برسم الانتظار

TT

كل ما يجري في المنطقة العربية يشير إلى أنها برسم الانتظار على مستويات متعددة، ولكل منتظر هدف وغاية وسبيل وطريقة، تفترق فيها جميعا ويبقى الانتظار سيّد المشهد وحادي الأحلام والأوهام.

الدول العربية من المحيط إلى الخليج برسم انتظار التطوير والتحديث والتنمية سياسيا وثقافيا واقتصاديا، والمجتمعات العربية برسم انتظار تحقق أحلام العدالة والمساواة والرخاء والسعادة، والفرد العربي برسم انتظار خلاص ما، ينشده بروحه وعاطفته لا بعقله وتفكيره في الغالب، تفترق التفاصيل بين دولة ودولة ومجتمع وآخر وفرد وغيره ولكنّ الجميع ينتظرون، القلة تنتظر ولكنّها لا تكتفي بالانتظار بل تعمل وتجدّ وتجتهد لتحويل الانتظار لشيء يستحق العناء ولكنّ الكثرة تنتظر وتنتظر وربما استمتعت بالانتظار فأناخت ركابها ورضيت من الغنيمة بالإياب.

دول الاحتجاجات العربية برسم انتظار الاستقرار واستعادة هيبة الدولة وبسط الأمن، والصراعات تتجاذبها داخليا وإقليميا ودوليا، وكل يريد الضرب في مستقبلها بسهم وأن يحظى فيه بموطئ قدم يؤمن مصالحه ويرعى منافعه في مقبل الزمن، وبعض ذلك معلن وظاهر وبعضه يعمل تحت الأرض ما دامت تلك الأرض أرضا خصبة تعمّها الفوضى ويسودها الاضطراب، وطبيعة الأشياء تقول إن مثل هذه اللحظات من تاريخ الدول والمجتمعات وحين تضيع بوصلتها فإنّ التأثير فيها وبها، لها أو عليها أمر سهل وميسور.

المجتمعات العربية في انتظارها لتحقق أحلامها تسلك كل سبيل إلا سبيل نشر وترسيخ الوعي والثقافة لا مجرّد تكديس المعلومات، وبثّ التسامح لا مجرّد التعايش - والانفجار المعلوماتي الذي دفع به للمقدمة التطوّر التقني قد يكون إضافة للفكر لدى البعض ولكنّه مساحة للتشتت لدى الأكثر - ولهذا فهذه المجتمعات هي مجتمعات برسم الاستغلال دائما من شتى الآيديولوجيات واللهاث خلف الشعارات، فقوّة الحناجر لم تزل أعلى كعبا من قوّة العقل، والتفكير الجمعي لم يزل أكثر حضورا من التفكير الفردي، ولهذا فالغوغائية سوقها رائجة والفردية كاسدة، والأحلام الكبرى كالعدالة والمساواة والرخاء والسعادة لا تتحقق إلا بتراكم حضاري طويل فيه الكثير من العناء والتعب، وهي لا تأتي خبطة حظ لمجرد أحلام تملأ الأذهان ليس لها من قيم المجتمعات ما يحرّكها ويحوّلها لخطط عمل ومشاريع برسم الإنجاز.

الفرد العربي ليس أفضل حظا من دولته ومجتمعه فهو الآخر يعيش في غابة من التيه بين ركام حضاري متخلف يسدّ عليه آفاق الرؤى المفتوحة، فهو غارق في أوحال الطائفية ولا قشة من وعي، وضائع في نفق المذهبية ولا بصيص أمل من تسامح، وقل في الإثنية والقبلية مثل ذلك، ثمّ إنه في حياته بلا تعليم متطور ولا أمان صحي ولا عمل يضمن الحدّ الأدنى من حاجاته الأساسية.

إنّ المنطقة برمّتها برسم انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، فالملف النووي الإيراني والموقف منه ومن دولة الولي الفقيه وسياساتها العدائية في المنطقة وتشعباتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وبعض دول الخليج العربي برسم ذلك الانتظار، والمأساة أن الأزمة السورية بكل قتلاها وجرحاها ومهجّريها برسم الانتظار هي الأخرى، وكثيرون يأملون أن تتغير سياسات الولايات المتحدة المتباطئة تجاه الملفّ السوري المثخن بآلام السوريين والخارطة السورية التي تنزف من أقصاها لأقصاها. والمنطقة برمّتها برسم انتظار أنّ الولايات المتحدة بغض النظر عن المنتصر في انتخاباتها سواء كان الرئيس الديمقراطي باراك أوباما أم الجمهوري ميت رومني ستعيد النظر في سياساتها تجاه المنطقة عموما، ولكلٍ اتجاه ورغبة، وعلى الرغم من الإقرار بأهمية الولايات المتحدة وثقلها الدولي وقدرتها على التدخل في هذه الملفّات وتجاوز العجز الذي كان العنوان الأبرز للمؤسسات الدولية في الفترة الماضية فإنّه وإن أجدى تدخّلها السياسي مرحليا فهي لم ولن تكون الحلّ السحري لأدواء التاريخ وتعقيدات الجغرافيا.

الحركات والقوى المدنية العربية الطامحة بالتقدّم والرقي والتي لم تزل برسم الانتظار منذ زمن بعيد يبدو انتظارها اليوم أبعد منالا وأشق سبيلا، والحركات والقوى الأصولية ظفرت بحلم السلطة الذي لطالما سعت وجهدت إليه، وهي في صعود وانتشار، وها هي ولمّا تستكمل استحواذها على كل مفاصل الدولة في دول الاحتجاجات العربية بدأت تتشقق بين الانحياز للآيديولوجيا العتيقة الراسخة وبين براغماتية وميكافيلية تستوجبها السياسة، فبعضها أخذ يذهب بالآيديولوجيا لأقصى مداها وبعضها شرع يذهب بالانتهازية السياسية إلى أقصاها المقابل، والكل يتفرّج على صراع الأولويات الأصولية التي تملأ المشهد وتسيطر على الجدل والنقاش العام.

الأصولية بطبيعتها هي برسم الانتظار، انتظار الخلاص النهائي، وانتظار مؤشراته على الأرض، ومن هنا يمكن للباحث أن يرصد الانفجار التأويلي الجديد للنصوص الدينية، فنتائج انتخابات ما أصبحت نصرا للمؤمنين، وفوز مرشح ما أضحى تمكينا للصابرين وسيطرة حركة سياسية على المشهد السياسي في بلد معيّن صار تحقيقا لوعد الله وبسطا لخلافته على الأرض، ومع ما في هذا الانفجار التأويلي من عبثٍ بالنصوص الدينية فإن دلالاته الواقعية هي أنّ المرحلة الأصولية الجديدة في العالم العربي إنّما تعلن عن بداياتها فقط، وسيكون على العالم العربي أن يمرّ بحقبة جديدة من السيطرة الآيديولوجية لفصائل الإسلام السياسي بل والعنيف لن تكون قصيرة بحال.

كما يبدو كل الفرقاء في المنطقة العربية برسم انتظار التعلّم، فالساسة الآيديولوجيون الجدد في دول الاحتجاجات العربية برسم انتظار تعلّم إدارة الدول وإدراك لغة السياسة، والآخرون من مخالفين لهم ومراقبين برسم انتظار تعلّم المفردات الدينية ودلالاتها حين يتمّ إقحامها في السياسة، وريثما تتعلّم الأطراف من بعضها تبقى أحلام الدولة الحديثة برسم انتظار يبدو ليله طويلا وفجره بعيدا.

الانتظار في المنطقة يمكن رصده على أكثر من مدى قصير ومتوسط وطويل، وعلى أكثر من تصنيف فثمة انتظار سياسي ومجتمعي وفردي، ومن جهة أخرى فثمة انتظارات آيديولوجية وثقافية وحضارية، ولكل انتظاره.

أخيرا، ليس من غرض هذه القراءة بث تشاؤم ولا نشر تفاؤل، إنما هي محاولة في رصد المشهد العام في المنطقة العربية من جوانب لا يتمّ التركيز على إبرازها أو على الأقل لا يتمّ التطرّق لها كثيرا، وإذا كانت زوايا المشهد معتمة فإن مرايا القراءة لا يمكن لها أن تزهر بالأضواء.