أسماء الأمكنة والرجال

TT

يتأمل المرء الصورة مرة أخرى. ثم يعود فيتطلع لعله أخطأ. لكنها حلب، لا برلين ولا درسدن ولا وسط بيروت خلال الحرب. وأحزن ما يحزن في حلب ليس الأمكنة ولا ركامها المقدس، بل أسماؤها. هنانو والجابري وأسماء تلك الحركة الاستقلالية الكبرى التي بنت سوريا. أقامت سوريا للسوريين، يملكونها ويحكمونها في نظام ديمقراطي برلماني، يمثل جميع الناس والفئات والطبقات.

أسماء ألغيت من ذاكرة السوريين ولم يعودوا يسمعون بها لولا انفجارات يوم الأربعاء. وتاريخ قديم متعدد لا تتقدمه سوى القاهرة. مدينة سيف الدولة الذي حارب الروم، بينما كان أبو الطيب يكتب فيه، وله أجمل الروائع وأبدع البدائع. وكم من الكوارث قاومت وعادت إلى الوقوف. أحرقها المغول 1260 واستباحها تيمور لنك بجحافله المتوحشة 1400 ثم جاء المماليك والترك. وحاول الفرنسيون إغواءها بجعلها دولة مستقلة، فأبت إلا كل سوريا. جعلها ابن بطوطة درة من درر «تحفة النظار». ومتع الإدريسي النفس في أنحائها في «نزهة المشتاق». ولما مر القزويني في سوق الزجاج قال «ومن عجائبها سوق الزجاج، فإن الإنسان إذا اجتاز بها، لا يريد أن يفارقها لكثرة ما يرى فيها من الطرائف العجيبة والآلات اللطيفة».

أحرقت سوق الزجاج ودكت القلعة ورمدت ساحة الجابري وهنانو. هذه كانت سوريا قبل أن تصبح «سوريا الممانعة». لم يعد من قومي أو وطني سوى الممانعين، وباقي السوريين وباقي العرب خونة وفي حاجة إلى دروس يومية في الوطنية. آخر من ضم إلى لائحة الخونة كان خالد مشعل. وقبله عزمي بشارة. وكل من اعترض على تدمير سوريا وبكى على ركامها وأطفالها واهتز لعويلها، صار عميلا صهيونيا.

ألغى «البعث» تاريخ سوريا. نسي أن يمحو بعض الأسماء عن بعض الأمكنة فتذكرها الناس. ولكن بأي ذكرى «وبأية حال»؟ من قبل استخدم الفرنسيون فقط الطائرات في دك مدن سوريا. لم يسقط في حرب الاستقلال إلا نحو ثلاثة آلاف شهيد، برا وجوا. بالدبابات وبالطائرات. ولم تكن الهليكوبتر الروسية التي تحلق مثل مقص وحشي، قد عرفت بعد.

جاء دور حلب في مشط المدن السورية ولم يكن أحد يتخيل حتى في أقصى الافتراضات والتخيلات، أن أفضل مظاهر الممانعة سوف يكون بترميد ساحتي الجابري وهنانو، على الأقل احتراما للاسم. لكن كل شيء يتناثر ويتشظى كالزجاج. ذلك الزجاج البديع الذي صلي وأحرق. وكنت ذات مرة قد اشتريت تذكارا واحدا من حلب: عقد لابنتي من تلك اللطائف التي تحدث عنها القزويني.