الحصار الاقتصادي يؤلم الشعب الإيراني ويسعد حكومته

TT

قال وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، إن العقوبات الدولية المفروضة على إيران قد تؤدي إلى اندلاع ثورة مشابهة لتلك التي حدثت قبل أكثر من عام في مصر، وأدت إلى الإطاحة بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

الواقع أن حكومات الغرب كلها تقريبا تستند إلى هذه الفكرة في حصارها الاقتصادي لإيران. وهي فكرة تجسد بوضوح أن منطق أرسطو الصوري الذي عطّل الفكر الأوروبي لمئات الأعوام، ما زال يسيطر بقوة على أذهان الساسة في عصرنا هذا. الفكرة هنا تقول ببساطة ووضوح: عندما تعجز الشعوب عن الحصول على احتياجاتها المعيشية اليومية، تتحول الحياة بالنسبة لها إلى جحيم، وتستولي عليها التعاسة، فتكون النتيجة المحققة هي أن تثور ضد حكامها وتقتلعهم من أماكنهم.

الواقع أن كل ما ذكرته لك صحيح من ناحية اللغة وترتيب الألفاظ فقط، أما على مستوى الواقع فهو صحيح صوريا فقط، هو أشبه بالمعادلة المنطقية القديمة الشهيرة، بما أن كل إنسان حيوان، وبما أن سقراط حيوان والقطة حيوان؛ إذن سقراط قطة.

الواقع أن الشعوب لا تثور بدافع من التعاسة، فالشعب الروسي مثلا لم يثر على حكم ستالين الذي كان مثالا لم يعرفه التاريخ من قبل على البؤس والتعاسة. بل ثار فقط بعد أن حقق مستوى معقولا من التعليم ومن مستوى المعيشة لم يكن ليحلم به أجدادهم وآباؤهم في عصر ستالين. وقادة الشباب في ميدان التحرير الذين أنهوا نظام الرئيس السابق مبارك، كانوا جميعا من أبناء الشريحة العليا في الطبقة الوسطى، الذين تلقوا تعليما على مستوى رفيع ويعيشون عيشة مرفهة إلى أبعد الحدود. ليست شدة الحاجة إذن والشعور بالتعاسة هما ما يصنعان الثورات، بل هو الاحتقار وما يولده من كراهية، ما تلبث أن تتحول إلى إعصار من الغضب كفيل باقتلاع أي نظام مهما بلغت قوته من مكانه، وإلقائه خارج التاريخ.

عندما يحقق البشر قدرا من النجاح في مهنهم ووظائفهم، تنشط بداخلهم عاطفة اعتبار الذات، ويرفضون أي معاملة غير كريمة من حكامهم، أما ما هو أخطر من الرفض فهو الإحساس بالاحتقار. ومن الغريب والطريف معا أنه في الأنظمة الخائبة يستطيع أي مسؤول كبير أن يدفع في لحظات عدة ملايين من البشر لاحتقار رئيس الدولة بطريقة يستحيل علاجها. عندي مثالان؛ صورة فوتوغرافية نشرت في صحيفة شهيرة لرئيس دولة يمشي في بهو مع عدة رؤساء آخرين، الرئيس المقصود يقودهم، يمشي أمامهم، ثم يتضح بعد ذلك أنه حدث تدخل في هذه الصورة الفوتوغرافية لإخراجها على هذا النحو السخيف الأبله، الذي يظهر الرئيس وهو يقود رؤساء العالم.

رئيس تحرير آخر، كتب عن طرد من البلح أرسله أحد الأمراء للقصر الرئاسي عن طريق الشحن الجوي، وفي مصلحة الجمارك أصر مندوب الرئاسة على دفع مبلغ الجمرك المقرر عليه، وهو 27 جنيها مصريا، ولم يكتف الخبر المنشور بذلك، بل نشر صورة ضوئية لإيصال السداد. أسوأ شيء في السياسة هو أن تتعامل مع الناس بوصفهم بلهاء، هذا هو بالضبط ما يفتح الباب واسعا للإحساس بالاحتقار. ما رأيك في مثال ثالث كان له دوره الواضح في الثورة المصرية؟! اثنان من المخبرين، قبضا على شاب وهو يجلس بين أصحابه، وفي مدخل عمارة قريبة.. قتلاه، هكذا تفجرت قضية خالد سعيد التي كانت من أهم الروافد في الثورة. من المؤسف أنه لا يمكن استعادة أحداث التاريخ لنتعامل معها بشكل مختلف، هذا يحدث في الدراما السينمائية فقط. لقد كان من المحتم إخراج رئيس التحرير المسؤول عن الصورة المزورة من منصبه في نفس الليلة، كما كان من المحتم إخراج رئيس التحرير الآخر المسؤول عن حكاية البلح في نفس يوم ظهور الجريدة. أستطيع أن أحكي لك عشرات الوقائع التي أنتجت كمية من الاحتقار كانت كافية لصنع الثورة في مصر، ولكن اسمح لي بأن أعود لحكاية الحصار الاقتصادي على إيران الذي يتصوره ساسة الغرب وسيلة ناجحة لدفع الناس للثورة على حكومة نجاد.

في تجربة الحصار الاقتصادي لدولة العراق، الذي استمر لسنوات طويلة، جاعت الناس، كما باعت أفاضل الناس أثاث بيوتها لتأكل بثمنه، في الوقت الذي حول فيه الحزب الحاكم هذا الحصار إلى مصدر لملايين الدولارات عبر شبكة محكمة من التهريب والمهربين، بل وسمعنا عن صحافيين كانوا يحصلون على أنصبتهم على هيئة كوبونات بنزين يبيعونها للشركات. هل دفع هذا الحصار الشعب العراقي إلى الثورة على صدام؟

شاهدت وسمعت يوم الثلاثاء الماضي خطاب السيد نجاد في أحد المؤتمرات الصحافية، وانشغلت بدراسة وجوه الجالسين، كانوا جميعا حزانى مكتئبين إلى الدرجة التي تشعر فيها أنك تجلس في مأتم كبير، غير أن الحزن لا يصنع الثورات، كانوا حزانى بالفعل بينما هو يمثل ببراعة دور الشخص الحزين، هو غاضب قليلا لأن هناك من يستغل الأزمة الاقتصادية، ولكنه لم يسمها «الاقتصادية»، بل حرص على تسمية ما يحدث من انهيار للعملة وارتفاع كبير للأسعار بالحرب «النفسية»، وكأنه يطلب منهم عدم تصديق ما يحدث لهم، إنها مجرد حرب نفسية، ولا وجود واقعيا لها. ثم عدة أسئلة أجاب عنها بما لا يمس واقع الإيرانيين المعيش. ولكن مع كل التغيرات السيئة والمحتملة في الأسواق الإيرانية، من استغلال التجار للوضع السيئ الذي تمر به إيران، إلا أنني لا أتصور أن يكون ذلك دافعا للثورة على النظام، وحتى إذا حدث ما يسمى انقلاب قصر هناك، فلا بد أن يقوم به جناح يعتقد أن نجاد كان متساهلا مع الإمبريالية العالمية، أو لم يكن مستبدا بما فيه الكفاية.

كيف تثور الناس ضد نظام يقف بالمرصاد للإمبريالية العالمية والصهيونية العالمية؟ معظم شرائح النخبة تؤمن بما يؤمن هو به، وإذا توفر ذلك القدر من الصدق مع النفس عند بعض الناس فسيكتشفون، على الفور، أنه ليس جادا في كل ما يعلنه من أفكار معادية للدنيا كلها، وأن حليفه الوحيد على الأرض هو النظام السوري الذي لا يعرف له التاريخ مثيلا في وحشيته. ولكن حتى هذه الأفكار عندما يصل إليها بعض الأفراد، سيكتشفون في نفس اللحظة أن إعلانها يمثل خطرا شديدا على حياتهم.

يجب ألا يراهن أحد على ثورة الشعب الإيراني ضد حكومته بدافع من الضنك والفقر والتعاسة، فكل هذه العناصر تدفع الشعب الإيراني للوقوف بقوة مع قيادته، هم في حاجة إلى قدر من الرفاهية والحرية ليثوروا ضد هذا النظام، والحكومة تدرك ذلك بشكل يكاد يكون غريزيا، لذلك ستبذل مجهودا كبيرا لكي لا يصل الشعب إلى هذه المحطة، من المستحيل أن تعطيه الفرصة لأي قدر من الرفاهية والاستقرار والراحة.