الملك فيصل وعدم الانحياز.. ملامح وذكريات

TT

«إن علينا للدول الأجنبية المحترمة حقوقا، ولنا عليها حقوق، ولهم علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود (إن العهد كان مسؤولا)». من عبارات الملك عبد العزيز كما جاء في (كتاب الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز) تأليف المستشار الخاص خير الدين الزركلي سوري الجنسية.

كانت حكمة الملك عبد العزيز وبعد نظره في أن يضع الأمير فيصل بن عبد العزيز الذي تولى منصب وزير الخارجية منذ إحداثها عام 1930م واختار سموه معالي عمر السقاف لمنصب وزير دولة للشؤون الخارجية للإشراف على أعمال الوزارة. واحتفظ الملك فيصل بهذا المنصب أيام ولاية عهده وتوليه قيادة المملكة حتى يوم الثلاثاء 25 مارس (آذار) 1975م الموافق 13 ربيع الأول 1395ه يوم استشهاده وهو يتابع نشاطه في الديوان الملكي.

وفي عام 1968م كنت أزور المملكة بدعوة رسمية من الديوان الملكي لتغطية الزيارة التي قام بها شاه إيران تلبية لدعوة من الملك فيصل وردا لزيارته لطهران لبحث قيام التضامن الإسلامي. دعاني الوزير السقاف لزيارته في مكتب الوزارة في شارع البغدادية المطل على البحر الأحمر في جدة ليحدثني عن نتائج زيارة الشاه للمملكة وما تم الاتفاق عليه بشأن استقلال وسيادة دولة البحرين بموجب الاستفتاء الذي أشرفت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كانت تحكمها إمبراطورية طهران. وكنت الصحافي العربي الوحيد المدعو لهذا المؤتمر.

وعند دخولي لبهو وزارة الخارجية وجدت على جدار البهو آية قرآنية كبيرة نصها: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير». (الحجرات: 13)

وكان سؤالي الأول لمعالي عمر السقاف عن السبب في اختيار الآية القرآنية في القاعة فأجابني: «إن مولاي جلالة الملك فيصل منذ أن تولى منصب وزير الخارجية قد اختار هذه الآية لتمثل سياسة الدولة مع دول العالم دون استثناء وفي مقابلاتنا مع الدول العربية والإسلامية والأجنبية وتعاون المملكة مع الدول المعتمدة لديها دون انحياز». وفي اليوم الأخير لزيارة إمبراطور إيران تلقيت دعوة من وزارة الخارجية الكويتية لتغطية زيارته للكويت ولبيتها.

أقام الشاه مأدبة عشاء تكريمية للمك حضرها الأمراء والوزراء وكبار المسؤولين ودعيت إليها، وخاطب الشاه الملك فيصل: «يا أمير المؤمنين» وقوبل بعاصفة مدوية من التصفيق وقام الحضور تكريما للمك العادل.

وفي كلمة الملك فيصل عبر عن تواضعه كعادته مع قادة العالم رد بالشكر على ما تفضل به من مشاعر أخوية وودية قائلا، «أود أن أوضح في هذا اللقاء الإسلامي الأخوي ما بين الدولتين من علاقات طيبة تخدم رسالة الإسلام.. إنني أقوم مقام الخادم لشريعتنا السماوية وللشعوب الإسلامية وجنديا في خدمة قضاياهم الحقة دفاعا عن حقوقهم الكاملة المغتصبة».

لقد عرف عن الملك فيصل بعده عن الألقاب الرسمية، وأنه يعتبر ويفتخر عندما يناديه أي مواطن سعودي (يا أبا عبد الله) وهو لقب محبوب لراعي التضامن الإسلامي ويرتبط باسم نجله الأكبر صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل رحمهما الله.

في تلك المرحلة حمل القرن الميلادي العشرون الماضي، جميع المعايير بما يسمى بالحضارة الإنسانية في ضوء ما جرى من تكتلات في الكرة الأرضية والذي بدأ في الإعلان عن قيام عصبة الأمم عام 1920م في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى التي قضت على الإمبراطورية العثمانية، وتوزيع المنطقة إلى دويلات ومنها سوريا الكبرى التي كانت تجمع سوريا ولبنان والأردن وفلسطين إلى أربع دول ومنحت فرنسا حكم سوريا ولبنان، وحكم الأردن وفلسطين لبريطانيا العظمى إلى جانب العراق.

لذلك كانت حكمة الملك عبد العزيز وبعد نظره في وضع سياسة ثابتة للخارجية السعودية والحفاظ على كيان الدولة السعودية في شبه الجزيرة العربية في خلال الحربين الأولى والثانية وهذا ما ساعد على صفة الاستقرار والدوام واليقظة في الجزيرة العربية بهدف حمايتها. والمعروف أن الملك عبد العزيز وقف في الحربين الأولى والثانية على الحياد حتى لا تنجر المملكة في الصراع الدولي للحفاظ على المقدسات الإسلامية.

وجهت دول التحالف الغربي الممثل بالولايات المتحدة وبريطانيا الدعوة للملك عبد العزيز للمشاركة في مؤتمر قيام منظمة الأمم المتحدة، باعتبار أن المملكة من الأعضاء المؤسسين لهذه المنظمة العالمية بهدف التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة يوم 25 أبريل (نيسان) 1945م في ولاية فرانسيسكو وأناب الملك نجله الأمير فيصل وزير الخارجية مع نجله الأمير فهد لتمثيل المملكة في المنظمة العالمية.

وقد توجت مجلة «الحرب والعالم» التي صدرت أيام الحرب العالمية الثانية لنقل الأعمال الحربية بصورة مفصلة، صفحتها الأولى (الغلاف) بصورة الأمير فيصل – طيب الله ثراه - وقوفه على المنصة الرئيسية وهو يخاطب العالم كل العالم ويحدثه عن المبادئ السامية (العيش السلمي) في الكرة الأرضية وهي المبادئ التي قامت عليها المنظمة العالمية.

وقال الأمير فيصل، «إن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة إنما تطابق تعاليم الدين الإسلامي الذي يعتنقه (400) مليون مسلم في العالم، وهي التعاليم التي اتخذت الحكومة السعودية منها دستورا تسير على هديه، ولا غرو فإن الإسلام قد أقام العلاقات البشرية على قواعد الحق والعدالة والسلم والرخاء».

مع ملاحظة أن التقدير الذي أعلنه الأمير فيصل عن عدد المسلمين بـ(400) مليون في العالم كان عام 1945م، أي قبل 67 سنة، أما الآن فإن عدد المسلمين في العالم يزيد على مليار ونصف المليار مسلم.

وأثناء توقيع الأمير فيصل على ميثاق الأمم المتحدة قال سموه بهذه المناسبة كلمة جاء فيها، «إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الصغيرة التي كانت تأمل أن يحقق الميثاق المثل العليا، على أنه خطوة كبيرة إليها وسنعمل كلنا للمحافظة عليه وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي».

ومنذ ذاك التاريخ لازمت قيادات المملكة على عدم الانحياز لا غربا ولا شرقا وتقوم علاقاتها الدولية مع كل المجتمعات على أساس المصالح المشتركة دون التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا من أجل المصالح العربية والإسلامية والحفاظ على سيادتها واستقلالها وتضامنها. وما زالت المملكة تمارس عملها الدؤوب في المنظمة الدولية لا من أجل نفسها فحسب بل من أجل العالمين العربي والإسلامي ومن أجل قضية العرب الأولى - القضية الفلسطينية - التي كانت السبب في انفجار الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وقيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي.

لذلك قام تكتل من شرق آسيا من رؤساء حكومات الهند وباكستان وإندونيسيا بهدف قيام المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز تدعى إليه دول آسيا وأفريقيا المستقلة وعقد في باندونغ في الثامن عشر من نيسان (أبريل) 1955م وطلب من الدول المدعوة وعددها 28 دولة إيفاد رؤساء حكوماتها أو وزراء خارجيتها.

ومن الدول التي دعيت من شرق آسيا دولة الصين الشعبية (الشيوعية) وهذه الدولة تشكل وحدها ربع سكان البشرية وتحاول إنشاء تكتل بشري حولها، وقامت نزاعات كثيرة بينها وبين الاتحاد السوفياتي على الرغم من اعتناق كليهما العقيدة الاشتراكية الماركسية التي تتنكر لوجود الخالق العظيم.

فهل من المعقول أن تدعى دولة شيوعية لمؤتمر أطلق عليه عدم الانحياز «ولكن فسر لدى الدول المنظمة للمؤتمر بأن الصين تدعى كأول مشاركة لها في هذه المؤتمرات أملا بتبديل سياستها الاشتراكية، ولم يكن قد اعترف بها سوى الدول الاشتراكية في شرق أوروبا وبعض دول آسيا وهو فاتحة لدخولها الأوساط الدولية».

ولم توجه الدعوة لدولة الاتحاد السوفياتي لهذا المؤتمر باعتباره دولة أوروبية على الرغم من وجود جزء كبير من أراضيه في آسيا. ويبدو أن الصين كانت السبب في عدم توجيه الدعوة لدولة الاتحاد السوفياتي بسبب المنافسة بينها وبين الاتحاد السوفياتي في نشر المبادئ الماركسية. كما لم توجه الدعوة لإسرائيل لأن الدول العربية المشاركة أعلنت أنها تقاطع المؤتمر إذا اشترك فيه اليهود.

وحضر المؤتمر عن الدول الكبرى الآسيوية الرؤساء أحمد سوكارنو رئيس الجمهورية الأندونسية والبانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند والرئيس الباكستاني وشوان لاي رئيس وزراء الصين. والأمير فيصل بن عبد العزيز ولي عهد الملك سعود ويرافقه الدكتور مدحت شيخ الأرض المستشار الخاص وجمال عبد الناصر عن مصر وغيرهم. وأتيح لي أن أصافح سمو الأمير فيصل وقدمني لسموه الدكتور شيخ الأرض قائلا، «صاحب السمو هذا الصحافي اسمه مطيع وهو اسم على مسمى». ورد سمو الأمير بأنني التقيت به منذ عشر سنوات في دمشق خلال حضوري الاحتفال الوطني السوري بعيد الجلاء الأول وقدمه لي الرئيس السوري شكري القوتلي ولمست نشاطه الإعلامي في ذاك التاريخ لذلك ندعوه لزيارة المملكة ليتحدث عن منجزاتها في هذه المرحلة، وطلب من الدكتور شيخ الأرض حال عودتنا للرياض أن توجه إليه الدعوة لزيارتنا وباعتباره يمثل صحيفة عربية موثوقة وناشرها صديق لنا. وشكرت سموه على هذه الدعوة الكريمة مؤكدا استعدادي للقيام بهذا الواجب الإعلامي. ومنحني معالي عمر السقاف تأشيرة زيارة مفتوحة تجدد كل عام. ومما يلفت النظر بأن سموه زار المركز الإعلامي لرجال الصحافة التي أعدته الحكومة الإندونيسية لتسهيل أعمال رجال الإعلام واستخدام أحدث الأجهزة والتقنية المتطورة وقد أعجب سموه بهذا المركز كما شاهد الوفود الإعلامية العالمية تقوم بواجبها الصحافي، لذلك عاد إلى المملكة وبدأ بتنظيم المؤسسات الإعلامية لتقوم بدورها في تغطية المعلومات داخليا وخارجيا، وضرورة أن يرافق وفد صحافي لقيادات المملكة في رحلاتها للعالم الخارجي وطبق هذا النظام منذ أن تولى جلالة الملك فيصل مقاليد الحكم عام 1964م.

ومن أهم المواضيع التي نوقشت في اللجنة السياسية كان موضوع التعايش السلمي وكان هدفا أساسيا للعيش بأمن وسلام على الكرة الأرضية، إلى جانب الحروب العادية والأخطر منها الحروب الذرية والتي هي أخطارها على البشرية.

بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد أثار الأمير فيصل بن عبد العزيز هذه القضية بشكل مفصل وأكد بأن قضية فلسطين هي قضية العالمين العالمي والإسلامي أولا وأن الواجب المحتم في الظروف الحاضرة العمل على إنقاذ فلسطين. وقال الأمير فيصل إن مفهوم المملكة العربية لعدم الانحياز أي لا تبعية سواء للغرب أو للشرق وهذا ما تقوم به المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز.

وأكد الأمير فيصل بأن القيادة السعودية حريصة على نشر مبادئ الإسلام بصورة سليمة وصحيحة باعتبار شريعة الإسلام دين الوسطية والاعتدال. وإن القوى الشيوعية تناهض توحيد كلمة الأمة الإسلامية وجمع صفوفها وأن هذه الدعوة تقوض أركان الإلحاد، وأركان ما يبنى عليه المذهب الشيوعي من إنكار لوجود الله سبحانه وتعالى ومن تحطيم لقوى البشر كبشر، وإنسانية كإنسان، وأن القوى الشيوعية تخشى أن تصل الدعوة الإسلامية إلى مناطق بسطت الشيوعية نفوذها عليها، وهي مناطق إسلامية صرفة.

قوبلت كلمة الأمير فيصل بعاصفة من التصفيق من أعضاء الوفود والتي نهضت من مقاعدها تحية للأمير فيصل بن عبد العزيز خاصة عندما أوضح بصراحة موقف المملكة من مفهوم عبارة (عدم الانحياز).

وخلاصة القرارات التي اتخذها المؤتمر إنما تتصل باحترام حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، واحترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها، والاعتراف بالمساواة العنصرية والوطنية والامتناع عن الاشتراك في نظام دفاعي جماعي في صالح إحدى الدول الكبرى، وتسوية جميع المشاكل الدولية بالطرق السلمية.

الفارق كبير ولا يمكن المقارنة بين نتائج المؤتمر الأول لعدم الانحياز والمؤتمر السادس عشر الذي دعت إليه طهران مؤخرا؛ لأن هذا المؤتمر الأخير كان بهدف خدمة إيران الثورية وبرامجها النووية، وكانت طهران قد أعلنت قبل انعقاد المؤتمر أن هدف المؤتمر لإعلان مبادرة لحل النزاع في سوريا، ولكن هذا الموضوع ضاع بين مصالح إيران وأهدافها الغامضة وخططها في مياه الخليج العربي لتحقيق أطماعها التوسعية للسيطرة على موقع مضيق هرمز في بحر الخليج العربي، وهو الباب التاريخي لتسهيل الاتصال بين القارات وقارة آسيا ومرور حاملات النفط العربي المصدرة للدول الغربية. ويتباهى أحمدي نجاد رئيس وزراء إيران بأن طهران تستطيع أن تسيطر على العالم وكل تصريحاته جوفاء وبالونات هوائية داخلية فقط لكسب تأييد الشعب الإيراني بسبب قوة المعارضة في إيران.

لذلك كله من حق الزميل طارق الحميد رئيس تحرير «الشرق الأوسط» أن يتساءل في مقاله في العدد 12333 عن مصير المبادرة الإيرانية تجاه سوريا والتي لم يتعرض لها ما سمي بـ«إعلان طهران» على أي إشارة. وبقي السؤال دون جواب وسيبقى أيضا.