ما التأثير الذي تحدثه سوريا على ثقة المستثمرين؟

TT

في الأسبوع الماضي، ألقينا نظرة على ليبيا وكيف تسير الأمور فيها من منظور تجاري. وهناك مصدر آخر للقلق بالنسبة للعاملين في مجال المال والأعمال يتمثل في سوريا، حيث إن الوضع هناك أكثر تعقيدا بكثير، وربما تكون له عواقب واسعة النطاق. ولكن أولا سوف أبدأ بنبأ إيجابي من بريطانيا، أن لا وهو إنشاء «لندن أراي»، وهي أول مزرعة رياح بحرية كبرى في العالم وتتضمن مكونا هاما من الشرق الأوسط. والرابط بين هذين الظرفين غير المرتبطين ظاهريا ليس بهذا الغموض الذي قد يبدو عليه في البداية، ذلك أن مزرعة «لندن أراي» - على غرار الوضع في سوريا - لها عواقب واسعة النطاق، فعند الانتهاء من إنشاء المزرعة ستكون قادرة على توليد ما يصل إلى ألف ميغاواط من الكهرباء، أي ما يعادل الكثير من محطات توليد الكهرباء التقليدية. وتعتبر أهمية هذه المزرعة أكبر بكثير من المشروع نفسه، حيث إنه سيعود بالكثير من الفوائد العظيمة على بريطانيا العظمى فيما يتعلق بتوليد الكهرباء النظيف والخالي من الكربون: فقد أصبح توليد الكهرباء باستخدام الوقود غير الحفري واقعا تجاريا، وهو لن يحل محل النفط لكنه سيكمل ويضيف إلى الاستراتيجية التي تنتهجها السعودية بتهدئة إيقاع أسواق النفط، خوفا من أن يؤثر استمرار ارتفاع الأسعار على الاقتصاد العالمي وأن يضر بالطلب على النفط على المدى البعيد.

وقد انتهى الصيف المنصرم بأنباء جيدة بالنسبة لمزرعة «لندن أراي»، حيث احتفلت بحدث بارز وهو تركيب توربين الرياح رقم 100 بالمزرعة، وتتضمن المرحلة الأولى عند الانتهاء منها 175 توربينا، أي إن هذه المرحلة قطعت أكثر من نصف الطريق، وهي تمضي قدما نحو الاكتمال بنهاية العام طبقا للجدول الزمني الموضوع، وهذه التوربينات الـ175 سوف تولد ما يصل على 630 ميغاواط من الكهرباء، وهو ما يكفي لإنارة أكثر من 470 ألف منزل سنويا. وعند اكتمال المرحلة الأولى من مزرعة «لندن أراي»، فإنها ستوفر ما يزيد على 925 ألف طن من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون سنويا. وشركة «لندن أراي المحدودة» هي عبارة عن اتحاد مالي مكون من 3 شركات رائدات على مستوى العالم في مجال الطاقة المتجددة، وهذه الشركات تعمل معا على تطوير وبناء أكبر مزرعة رياح بحرية في العالم. وتمتلك شركة «مصدر» - وهي شركة طاقة متجددة متعددة الأوجه في أبوظبي - حصة تبلغ 20 في المائة من هذا المشروع.

والآن عودة إلى الموضوع الرئيسي في هذه المقالة، التي تتناول التأثير الذي يحدثه انزلاق سوريا حاليا إلى حرب أهلية على ثقة المستثمرين في العالم بشكل عام. ومن يقرأون مقالاتي بانتظام منكم سوف يعرفون أنني أتحاشى الحديث في السياسة وأركز على النشاط التجاري، إلا أن الاثنين أحيانا ما يرتبطان بصورة لا مفر منها، وهنا لا يوجد أي استعجال من التأثيرات الخارجية في الوصول إلى حل للتوترات القائمة في المنطقة. فلكي تضبط روسيا ميزانيتها، ينبغي أن يتراوح سعر النفط حول 115 دولارا للبرميل، وروسيا لا ترغب بالضرورة في أن ترى انفجارا داخليا يحدث في سوريا أو في إيران، ولكن ما تريده الحكومة الروسية حقا هو فترة زمنية تتصاعد فيها التوترات أو حالة جمود، لأن ذلك الجو يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط. والسعودية تعلم أن ذلك السعر أعلى من أن يعزز التعافي الاقتصادي العالمي، وبعيدا عن أي مخاوف جيوسياسية، فإن السعودية لديها وعي دقيق بالاتجاهات التجارية على المدى البعيد. ولا تستطيع روسيا أن تتلاعب بالأسعار نفسها، لكنها تستطيع أن تصنع قرارات محسوبة سياسيا - وخاصة عندما يتعلق الأمر بسوريا وإيران - ترمي إلى دفع الأسعار إلى الارتفاع، وهذا الاضطراب الذي تشهده المنطقة سيكون له تأثير سلبي على بقاء أسعار النفط في مستويات معقولة.

كما أن الأبعاد الجيوسياسية تلعب دورا هي الأخرى، فالساسة الغربيون يريدون من السعودية أن تزيد إنتاجها من النفط لسد جوانب النقص التي خلفها الحظر المفروض على إيران. وبمجرد إضافة إيران إلى المعادلة، يتضح أكثر فأكثر مدى أهمية روسيا كلاعب مؤثر في هذا الصراع، وهذا بدوره له انعكاسات فيما يتعلق بالصعوبات التي تواجهها روسيا في الشيشان. والمستثمرون ينظرون إلى كل المخاطر عند تقييم أين ومتى توجد الفرص، وكذلك عند تقييم التكاليف التمويلية لممارسة النشاط التجاري، ويعتبر سعر النفط عاملا رئيسيا في كل هذا.

وتمثل سوريا حالة فوضى حقيقية، ولا يقتصر تأثير ذلك على الحدود السورية، فسوريا هي عبارة عن مجتمع متعدد الطوائف توجد به هويات مشتركة مع جماعات موجودة في بلدان أخرى، ونتيجة لهذا فإن التوترات الطائفية تتدفق خارج الحدود السورية. ولفهم الصورة الشاملة هنا، علينا أن نتذكر أن الحدود القائمة بين الدول في الشرق الأوسط هي حدود مصطنعة إلى حد بعيد، ومعظم هذه الحدود تم وضعه مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وروسيا ليست الطرف الوحيد المعني هنا، فقد ظهرت القومية الكردية بعد الحرب العالمية الأولى، والأكراد بالطبع لهم مصلحة فيما سيؤول إليه كل هذا. ويعمل إقليم كردستان العراق على تطوير نشاط تجاري واستثمار داخلي قائم على أسس سليمة، ولكن هذا لا يحدث في المناطق الكردية في كل من تركيا وسوريا.

ويثير تصاعد الدور الذي تلعبه تركيا في الأزمة مخاوف جادة من أن يقوم البلد - وهو عضو في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) - في النهاية بجر بقية شركائه إلى حرب مع سوريا، من خلال الاحتكام إلى المادة الخامسة من اتفاقية واشنطن، التي تنص على أن تشارك جميع البلدان الأعضاء بالحلف في الدفاع عن أي بلد عضو آخر يتعرض لهجوم. وقد أعلنت روسيا أنها حصلت على تأكيدات من دمشق بأن قصف تركيا كان حادثا مأساويا، حسب ما ورد في التقارير الإخبارية، وقد فقدت روسيا كثيرا من نفوذها في المنطقة، وتعتبر سوريا الموضع الأخير في الشرق الأوسط الذي يوجد لدى روسيا دور كبير لتلعبه فيه. كما توجد الكثير من الروابط الاقتصادية والثقافية الأخرى بين روسيا وسوريا، فهناك الكثير من الشركات الروسية التي تعمل في مجال النفط والغاز الطبيعي داخل سوريا، وقد وافقت شركة الطاقة النووية العملاقة المملوكة للدولة «روساتوم» على بناء محطة توليد كهرباء هناك، كما توجد شركات روسية أخرى لديها هي الأخرى مصالح في قطاعات مثل الزراعة والأدوية والبنى التحتية والاتصالات، بالإضافة إلى مليارات الدولارات التي تربحها روسيا من بيع الأسلحة. وجمع المال مهم بالطبع، ولكن لعل الشيء الأهم بكثير بالنسبة لروسيا هو احتمال أن تفقد نفوذها السياسي في سوريا.

وفي الشهر الماضي، ذكرت صحيفة «تشاينا توداي» أن الاستثمارات عادة ما تكون الأكثر تأثرا بالأزمات، مؤكدة: «لقد تضررت الاستثمارات بشدة في سوريا بسبب طول أمد الأزمة، وتبذل الحكومة جهودا محمومة من أجل إعادة تنشيط هذا القطاع الحيوي، من خلال تطوير قوانين الاستثمار بها وتقديم حوافز جديدة». وقد أصدر محافظ المصرف المركزي السوري نفيا وقحا للمزاعم التي تقول إن البلاد تمر بأزمة مالية حادة، معترفا أن تفاقم الأزمة طوال 18 شهرا أثر على احتياطيات النقد الأجنبي، إلا أنه أكد أنه ما زال هناك الكثير مما يكفي لمواصلة القتال ضد الثوار. ويأتي هذا الموقف من جانب المحافظ في ظل تحذير كثير من الخبراء من أن الاقتصاد المحلي يشهد تدهورا حادا، مما يضعف من قدرة النظام على الاستمرار في تحمل تكاليف حرب آخذة في الاتساع وتوفير الدعم للسلع الغذائية ودفع رواتب قطاع حكومي متخم بالموظفين.

وتتوقع «وحدة المعلومات» التابعة لمجلة «الإيكونومست» أن تتراجع احتياطيات سوريا من النقد الأجنبي لتصل إلى 4,8 مليار دولار هذا العام، في حين يؤكد ديفيد باتر، وهو خبير مالي متخصص في الشرق الأوسط لدى معهد «تشاتام هاوس» في لندن، أن الأرقام الرسمية تبدو «مثيرة للشك إلى حد بعيد»، مشيرا إلى أن هذا التراجع المحدود في الاحتياطيات غير متسق مع النزيف المالي الناتج عن تفاقم العجز في الحساب الجاري، الذي وصل رسميا إلى 8,56 مليار دولار العام الماضي، ومن المرجح أن يتسع أكثر فأكثر هذا العام نتيجة لخسارة صادرات النفط.

ويكمن تأثير المشكلات التي تواجهها سوريا في آثاره غير المباشرة، حيث إنه يطيل من أمد الخلافات داخل أسواق النفط طالما ظل حلفاؤها يستفيدون من ذلك، إلا أنه أيضا يخلق فرصا أمام تلك البلدان الموجودة في الشرق الأوسط - مثل السعودية - التي ترى أن تجاوز أسعار النفط حاجز 100 دولار للبرميل يضر بالنشاط التجاري. وقد أكد وزير النفط السعودي المخضرم علي النعيمي مرارا وتكرارا: «إن انخفاض أسعار النفط قد يكون (محفزا) للاقتصاد العالمي». ومن شأن استمرار حالة التوتر أن يوفر حافزا للاستثمار في مشاريع مبتكرة مثل مزرعة «لندن أراي»، ويبدو أن السعودية تنتهج سياسة أفضل من بعض البلدان الأخرى، أما سوريا فلن يكون لها تأثير سلبي كبير على النشاط التجاري والاستثمار على المدى البعيد.

* جون ديفي: أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال».