لماذا ينبغي أن تواصل أميركا دعم البحث العلمي؟

TT

باع لويس فون آهن، عالم الكومبيوتر في جامعة «كارنيغي ميلون»، مشروعا جديدا على الإنترنت لـ«غوغل» عام 2009 ويعمل حاليا على مشروع آخر. ويأمل مع شركته الجديدة «دوولينغو» تتبع الملايين الذين يتعلمون اللغات على الإنترنت من أجل عمل محرك ترجمة يقوم على التعهيد لمجموعة كبيرة. وقال فون آهن: «نريد أن نترجم الشبكة كلها إلى كل لغة أساسية ممكنة».

إنه مشروع طموح، والشركة جذبت رأسمال قدره 15 مليون دولار. ويراهن المستثمرون على فون آهن، وفكرته وفريقه المتزايد المكون الآن من 18 مهندسا، وخبير في اللغة ومصمم مواقع إلكترونية. ويجسد فون، البالغ من العمر 33 عاما، بعض المكونات الأساسية لثقافة الابتكار الأميركية، عندما تؤتي ثمارها. ويتمتع فون المهاجر من غواتيمالا بذكاء وطاقة للقيام بمشروعات رائدة. لقد تلقى مساعدة من الحكومة الفيدرالية، وبدأت شركة «دوولينغو» على أنها مشروع بحثي جامعي تتولى تمويله المؤسسة القومية للعلوم.

تكرر هذا الشكل بعدد لا يحصى على مدى سنوات، حيث للدعم الحكومي دور كبير في احتضان الأفكار الجديدة التي يحصدها القطاع الخاص ويحدث أحيانا أن يؤسس ذلك شركات ويوفر فرص عمل بعد ذلك بسنوات كثيرة. نظر تقرير نشره المجلس القومي للأبحاث خلال العام الحالي في ثمانية أشكال من أشكال تكنولوجيا الحاسب من ضمنها الاتصالات الرقمية وقواعد البيانات ومعمارية الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي في محاولة لتتبع الأبحاث الممولة من الحكومة من أجل التحول للاستخدام التجاري. وحسب التقرير جزءا من العائدات التي يمكن أن تكون ثمرة بذرة البحث في 30 شركة شهيرة التي تدعمها الهيئات الحكومية. وبلغ إجمالي العائدات 500 مليار دولار سنويا.

يقول بيتر لي، نائب رئيس وحدة الأبحاث في «مايكروسوفت»: «إذا نظرت إلى أي شركة تعمل في تكنولوجيا المعلومات اليوم بدءا بـ(غوغل) و(إنتل) و(كوالكوم) ووصولا إلى (آبل) و(مايكروسوفت)، يمكنك تتبع أشكال رئيسية من التكنولوجيا التي كانت ثمرة الاندماج الثري بين الجامعات الممولة من الحكومة الفيدرالية والبحث والتنمية في هذا المجال». ورأس الدكتور لي اللجنة التابعة للمجلس القومي للأبحاث التي نشرت التقرير الذي يحمل عنوان «استمرار الابتكار في تكنولوجيا المعلومات».

ربما تبدو أهمية الأبحاث المدعومة من الحكومة على المدى الطويل صغيرة في الجدل الدائر حاليا حول كيفية خفض العجز الفيدرالي. مع ذلك، تعد قضية اقتصادية جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار، وتشير إلى الخيارات الصعبة والمبادلات التي تواجه صناع السياسة.

ويدعو قانون السيطرة على الموازنة، الذي من المفترض أن يخرج إلى النور في يناير (كانون الثاني) المقبل ما لم يغير الكونغرس مساره، إلى خفض كبير في الإنفاق التقديري، بالنسبة إلى برامج غير البرامج الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. وسيتم خفض الإنفاق الفيدرالي على البحث والتنمية بما يزيد على 12 مليار دولار عام 2013 بحسب تقدير دراسة جديدة أجراها الاتحاد الأميركي للتقدم العلمي. وستخفض المؤسسة القومية للعلوم، التي تمول أبحاث علوم الكومبيوتر المدعمة من الحكومة في الجامعات، موازنتها بأكثر من 450 مليون دولار.

لقد حاول أعضاء مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي التفاوض على اتفاق لخفض عجز الموازنة لتفادي الخفض التلقائي، لكن من المرجح أن يتم زيادة تمحيص برامج مثل تلك التي تمول البحث العلمي من قبل العاملين على خفض الموازنة على مدى السنوات المقبلة. ويذكر تقرير التقدم العلمي بالفعل تراجع الإنفاق الحكومي على البحث والتنمية بنسبة 10 في المائة منذ عام 2010 مع وضع التضخم في الاعتبار. مع ذلك، لماذا ينبغي أن يكون دعم الحكومة للبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا بمنأى عن إجراءات خفض الإنفاق؟

ما لم ينتفع المجتمع بشكل كبير من هذا الإنفاق، لا يوجد أي سبب يدعو للتعامل معه بشكل خاص. في كتاب جديد بعنوان «Innovation Economics: The Race for Global Advantage (اقتصادات الابتكار: السباق من أجل التميز العالمي)» الصادر عن دار نشر جامعة ييل، يستعرض روبرت أتكينسون وستيفن إيزيل الحجة الخاصة بالدور الاستثنائي للعلم والتكنولوجيا في الاقتصاد.

قال أتكينسون في مقابلة إن خفض تمويل البحث والتنمية تفكير قاصر تماما، حيث يوضح أن الإنفاق على العلم والتكنولوجيا استثمار ينتج اقتصادا أكبر في المستقبل ويثمر ثروة ووظائف وعائدات ضرائب. إضافة إلى ذلك، يوضح أن مشروع القانون غير مناسب في أميركا، حيث تشغل الولايات المتحدة المركز الـ22 بين 30 دولة في تمويل الجامعات للبحث والتنمية بصفته جزءا من إجمالي الناتج المحلي.

وقدم كل من أتكينسون، رئيس مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، المؤسسة البحثية التي لا تهدف للربح، وإيزيل، كبير المحللين في المؤسسة، تعريفا للابتكار، مؤكدين على أنه لا يقتصر على الخروج بأفكار جديدة، لكن يشمل تطبيقها في صورة منتجات وعمليات وخدمات ونماذج تنظيمية جديدة. ينبغي أن يكون هدف السياسة في رأيهما هو الاستثمار في الانتقال بنشاط الابتكار من التركيز المحض على العلوم إلى الاستخدام التجاري.

ويتطلب هذا مساعدة حكومية تتجاوز الفكر السائد على المستوى الاقتصادي في الولايات المتحدة. ويتفق أكثر خبراء الاقتصاد على فائدة العلم المحض لالدولة بوجه عام، حيث يعود بالنفع على المجتمع بأكمله، لذا يستحق تمويلا من الحكومة. مع ذلك، يُنظر إلى التكنولوجيا، التي تعد تطبيقا للعلوم على أرض الواقع، على أنها «أمر يعود بالنفع على القطاع الخاص» لذا تُركت تنميتها للسوق.

يقول أتكينسون، الذي كانت رسالة الدكتوراه الخاصة به في تخطيط المدن والتخطيط الإقليمي، إنه يقدم القضية من أجل تخفيف قبضة «خبراء الاقتصاد النيوكلاسيكي» على السياسة. وتقلد أتكينسون مناصب في مجال وضع السياسات الاقتصادية والتكنولوجية في «رود آيلاند» والكونغرس، وعمل أيضا ضمن مجموعات استشارية في إدارة أوباما وكلينتون وجورج بوش الابن. وتحصل منظمة أتكينسون البحثية، التي لا تهدف للربح، على دعم مالي من مجموعات من ضمنها مؤسسة «ألفريد سلون» ومؤسسة «إيوينغ ماريون كوفمان» ومن شركات مثل «إنتل» و«آي بي إم».

أساس سياسة الابتكار بحسب أتكينسون، هو التعاون بين الحكومة والمؤسسات العاملة في الصناعة. وأوضح مثال على ذلك هي ألمانيا والشبكة المكونة من 60 مؤسسة «فرانهوفر» التي تحصل على 70 في المائة من تمويلها من الشركات، و30 في المائة من الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. ويقول إن المعاهد تقوم بالأبحاث التطبيقية التي تهدف إلى ترجمة التكنولوجيا الواعدة، بداية بأبحاث البوليمر ووصولا إلى تكنولوجيا النانو، إلى منتجات. وتعد هذه الشبكة من التحولات التكنولوجية من أسباب قوة قطاع التصنيع الأساسية في ألمانيا رغم أن أجور عمال المصانع أكبر من العمال الأميركيين بـ40 في المائة؛ على حد قول أتكينسون. وفي محاولة للاقتداء بالنموذج الألماني، أعلنت إدارة أوباما خلال العام الحالي خططا لنحو 15 معهدا تعمل في مجال الابتكار في الصناعة والتعاون بين القطاعين العام والخاص باسم الشبكة القومية لابتكار التصنيع.

سيكون المشروع الأول في ينغستاون بولاية أوهايو خاصا بالتصنيع المتخصص باستخدام التكنولوجيا ثلاثية الأبعاد. ويقول أتكينسون إن هذه خطوة جيدة، لكن هناك حاجة إلى التزام طويل المدى. وأشار إلى أن المبادرة الألمانية بدأت قبل أربعة عقود وتنمو بخطى ثابتة. ويجذب تركيز أتكينسون على الاستثمار في البحث والوسائل التي تصل بالأفكار إلى السوق المزيد من الاهتمام في الاقتصاد؛ بحسب ديفيد أودريتش، الخبير الاقتصادي في الجامعة الهندية. ويقول أودريتش: «هناك منفعة اقتصادية من البحث والتنمية، لكن يعود أكبر نفع على النظام البيئي الذي يعمل على مدخلات الابتكار ويحولها إلى مخرج تجاري في شكل منتجات». ويمثل مشروع فون آهن إضافة جديدة إلى الشبكة التكنولوجية في أنحاء بيتسبيرغ بالاشتراك مع «كارنيغي» وجامعة «ميلون» البحثية الكبرى.

وتجمع شركة «دولينغو» بين التعهيد لمجموعة مختلفة من الناس والحوسبة وتعلم اللغات والترجمة على الإنترنت. يتعلم الناس لغة مجانا، في الوقت الذي يتم فيه إدخال الدروس في قاعدة ترجمة سريعة التطور ويتم تصنيف تلك البيانات وفحص مدى دقتها من خلال برنامج فعال. ويشبه مبدأ التعهيد المبدأ الذي طبقه فون في شركته السابقة «ري كابتشا»، التي تستعين بخاصية أمن إنترنت شائعة تتيح للمستخدم تحديد وكتابة الكلمات التي يتم نقلها بآلة مسح ضوئي من كتب وصحف قديمة من أجل الدخول على موقع إلكتروني أو خدمة مما يساعد على تحويل هذه النصوص القديمة إلى صيغة رقمية. مع ذلك تعد شركة «دولينغو» أكثر طموحا وتطورا. وتم دعم البحث الاستكشافي من خلال منحة مقدمة من المؤسسة القومية للعلوم قيمتها 120 ألف دولار سنويا، يستخدم الجزء الأكبر منها في دفع مصروفات دراسة الطلبة ومصروفات معيشتهم. بعد عامين، أحرز فون آهن وفريقه الصغير تقدما في الخروج بنموذج عمل وبدء تأسيس الشركة وجذب مستثمرين من القطاع الخاص.

يقول فون: «تساعد المنح كثيرا عندما تعمل على شيء معقد علميا؛ خاصة عندما تكون في السنة الأولى أو الثانية من العمل، ولا تعلم ما إذا كان هذا الأمر سينجح أم لا».

وقام فون، مع علماء آخرين، ببضع رحلات إلى واشنطن من أجل التحدث مع أعضاء في الكونغرس وفرق عملهم. وكانت رسالته هي: «لا تكن قصير النظر، ربما يبدو خفض الإنفاق أمرا سهلا الآن، لكنك ستندم لاحقا على عدم استثمار جزء صغير من أموال موازنة الحكومة الفيدرالية في البحث العلمي».

* خدمة «نيويورك تايمز»