شخصيات سورية لا تُنسى

TT

شيء من التاريخ. بعضه ضروري لإذكاء الحنين إلى أناس ظلمناهم في حياتهم. ونسيناهم في مماتهم. وأَهالَ عليهم نظام القهر التراب. فأبادهم قسرا من الذاكرة.

لست مؤرخا. إنما أقدم هنا لمحات إنسانية وسياسية مختصرة، عن حياة بعض أولئك المنسيين. لا أُقَرِّظهُمْ كقديسين. فهم كساسة، لم يكونوا ملائكة. لكنهم لم يكونوا أبالسة. وخونة، كما صورهم نظام الزيف.

وأتحدث في لمحات عن عصرهم. ظروفهم. انتماءاتهم الاجتماعية. وأسأل أين هم المؤرخون والباحثون؟ ليكتبوا عنهم. في ساعة الحقيقة. في لحظة الحرية، ليروّوا غليل أجيال شابة تقاتل نظاما جائرا يحاول أن يدفنها، كما دفن آباءها وأجدادها. أجيال جديدة تقاتل. تموت لكي تعيش. لكي تعرف. لكي تستعيد التاريخ. بلا زيف. بلا تزوير. بلا خديعة. بلا ظلم.

لو عاش عبد الرحمن الشهبندر، ربما ما عرفت سوريا الانقلابات العسكرية التي دمرت الديمقراطية الوليدة. لكن الرجل كان أول ضحية سياسية للعنف الديني في القرن العشرين (1940). فقد قتل في عيادته، وهو بردائه الطبي الأبيض، برصاص التكفير. والزندقة. والكراهية. كان الشهبندر عقل وفكر النضال الثوري ضد الاستعمار. قاد ثورة دمشق (1925/ 1927) في قرى غابتها (الغوطة)، حيث يموت اليوم ألوف المدنيين والثائرين، بصواريخ وقذائف الطائفية التي سرقت الاستقلال وزيّفت الديمقراطية.

كان الشهبندر واعيا المأزق الطائفي. كان أول من نادى بالزعيم الوطني الدرزي سلطان الأطرش زعيما للثورة السورية. وكان الشهبندر إنسانا يداوي الفقراء بالمجان. عندما ذهبت آمال الأطرش (أسمهان) إليه في القاهرة، ليساعد أسرتها الصغيرة المهاجرة، لم يكن في جيبه سوى ريال واحد. كان هو منفيا. ملاحقا بحكم إعدام. وكانت هي صبية لم تشق، بعد، طريقها إلى الشهرة، بصوت كريستالي، فيه الكثير من حزن بلدها البعيد.

وكان جميل مردم مستشارا في وزارة الخارجية، عندما كان الشهبندر أول وزير لها في حكومة الاستقلال الأول (1919). وعندما غادر الثاني سوريا إلى المنفى (1927)، غدا الأول محرك السياسة النضالية. يفاوض. ويلهب الشارع.

وعرف مردم نكران الجميل من زملائه في «الكتلة الوطنية» التي قادت النضال من أجل الاستقلال. فحاولوا منافسته معتمدين على شوائب في مسيرته السياسية: تأييده لمعاهدة الاستقلال المنقوص مع فرنسا (1936). خلافه مع زملائه حول سياسة حكومته المالية آنذاك. ثم الاتهام الظالم له بالمسؤولية عن اغتيال الشهبندر الذي كان قد عاد من القاهرة، ومحرضا بشعبيته الهائلة الشارع ضد الكتلة الوطنية، وضد المعاهدة. وضد مردم.

برأ قضاة المحكمة الفرنسية مردم من الاتهام الظالم. وأدانوا رجل الدين الذي خطط عملية اغتيال الشهبندر. لكن الشبهة الثرثارة ظلت تلاحق الرجل الداهية. فقدم عليه شعبيا وزيره شكري القوتلي، ليصبح رئيسا لجمهورية الاستقلال (1943). دهاء مردم وذكاؤه ظلا رصيده. فشكل ثلاث وزارات أخرى في أربعينات القوتلي. وكان مردم المسؤول السوري الذي هندس مع الزعيم المصري مصطفى النحاس اتفاقية تأسيس الجامعة العربية.

كان مردم ذا غريزة سياسية شديدة الحساسية. عندما شعر بأصابع العسكر تهدد الديمقراطية، آثر الاستقالة. اعتزل السياسة. بل هاجر مع أسرته إلى حبيبته مصر في أواخر الأربعينات، ليموت في حضنها (1960). وهاجرت أسرة مردم مرة ثانية. غادرت مصر إلى سويسرا، ليغدو نجله زهير مردم أحد كبار رجال المصارف والبزنس العرب في أوروبا.

في نضالها من أجل الحرية، لم تعرف سوريا الطائفية. شكل فارس الخوري حكومة الاستقلال (1946) وشكل حكومة الديمقراطية في الخمسينات. كان الخوري بثقافته. وعلمه. وهيبة هامته المكللة ببياض شعره الكثيف، فوق تُرَّهات السياسة اليومية. شارك في وضع ميثاق الأمم المتحدة. وشارك زملاءه في «الكتلة الوطنية» آلام السجن. وخفف عنهم بتسليتهم بلعبة «البريدج»، كما روى زميله لطفي الحفار. وخرج الخوري من السجن ليهدي المسلمين قطعة أرض يملكها، ليبنوا مسجدا عليها.

لم يطل العمر برجل الدولة والوطنية سعد الله الجابري. مات باكرا بسرطان الكبد. وهزم مرض السل إبراهيم هنانو الزعيم الحلبي الآخر. فمات عام 1935، بعدما عجزت قوات الانتداب عن الإمساك به حيا. أو ميتا. قاتل إبراهيم هنانو في قرى ومدن حلب. إدلب. حماه التي يقصفها اليوم الأسد الابن بالصواريخ والقنابل.

أنجبت الأسرة الأتاسية السياسية ثلاثة رؤساء للجمهورية. منذ عام 1920، إلى عام 1954. كانت سوريا كلما خرجت من أزمة مع الانتداب، أو الديكتاتورية تعهد إلى هاشم الأتاسي برئاسة الجمهورية أو الحكومة. فيوصلها إلى درب الأمان. ويعود هو إلى عزلته. وأنجبت الأسرة ساسة. ودبلوماسيين. ومثقفين. بل أنجبت منتجا سينمائيا عالميا (نادر الأتاسي الشقيق الأكبر لمثقف ومفكر الاشتراكية الراحل جمال الأتاسي).

اختلف شكري القوتلي مع جميل مردم. فانتخب السوريون رجل الشجاعة رئيسا. وفضلوه على الرجل الداهية. حاول القوتلي الانتحار في السجن، لكي لا يجبره التعذيب على الوشاية بزملائه المناضلين. كان القوتلي نزيها. تقيا. محافظا على اليمين. بل متقشفا. أنفق من ماله على النضال. ولم يبن قصرا للرئاسة. اكتفى بالـ«فيلا» التركية القديمة المغمورة برومانسية أشجار الخضرة الدائمة.

باغتيال الشهبندر. والموت المبكر لسعد الله الجابري. واعتزال الداهية جميل مردم، انتهى عصر وحكم «الكتلة الوطنية». ولم يكن شكري القوتلي، في بساطته الفكرية والسياسية المتناهية، قادرا على استيعاب أفكار وتطلعات شباب جيل الأربعينات والخمسينات الذي استغرقته الحزبية السياسية والآيديولوجية، أو مواجهة غدر عسكر الانقلابات. أو تنافس القوى العربية. والإقليمية. والدولية، على الفوز بقلب سوريا. فقد ظل مراهنا على «قبضايات» الأحياء والحارات القديمة، كمفاتيح تضمن له ولاء الشارع التقليدي المحافظ!

بنهاية عصر «الكتلة الوطنية» الجمودية، لم يبق طافيا منها على السطح سوى شكري القوتلي. كان بضخامته وصوته الجهوري، أشبه بـ«التيتانيك» التي لا تغرق. ثم جاء الصدام المحتم. فقد استسلمت سفينة «التنك» السورية، لجبل الجليد الناصري. ثم ما لبثت الموجة الطائفية الحارة أن ذوَّبت جبل الجليد، لتستغرق سوريا في النوم مع أهل الكهف خمسين سنة.

في الثلاثاء المقبل، لمحات إنسانية وسياسية عن زعماء المرحلة الجديدة: عفلق. البيطار. الحوراني. ناصر. رشدي الكيخيا. ناظم القدسي. أمين الحافظ. الأسد الأب والابن. و... مصطفى طلاس وزير الدفاع المزمن الذي أجاد فن البقاء على الهامش ثلاثين سنة.