أميركا وسوريا.. صح النوم!

TT

قبل يومين، نشرت «الشرق الأوسط» مقالا مهما للكاتب الأميركي الشهير ديفيد إغناتيوس، نقلا عن صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، بعنوان: «48 ساعة في سوريا».

الكاتب المخضرم، سنا وتجربة، قرر أن يزور مواقع المقاتلين الثوار داخل الأراضي السورية، من جهة الشمال، في مغامرة تحسب له كثيرا، وقابل بعض المقاتلين على الميدان، ومنهم عبد الجبار العكيدي، أحد قادة الجيش الحر في الشمال السوري.

خرج بانطباعات جديدة، وسمع كلاما حقيقيا، وليس من رأى كمن سمع!

بعيدا عن الدرس المهني والأخلاقي للصحافيين العرب، الذي قدمه هذا الكاتب «الشيخ» الذي قرر خوض هذه المغامرة الخطيرة، وهو النجم الصحافي والكاتب المرموق في أميركا، وذلك درس، لعمري، كبير وغزير.

بعيدا عن هذا، نقف عند الخلاصات التي خرج بها ديفيد إغناتيوس، من حقيقة الصورة في سوريا، تلك الصورة التي شوش حولها وعليها كل العالم تقريبا.

يقول إغناتيوس وهو يصف مشهد الترحيب به من قبل المقاتلين السوريين، وكيف قدموا له واجب الضيافة البسيط على الأرض، وكيف شاهد مقاتلا ليبيا معهم، ثم يصف لقاءه بعبد الجبار العكيدي، الذي وصفه بأنه ربما يكون القائد الأعلى للجيش الحر داخل سوريا، ثم يقول: «أبدى العكيدي إحباط قائد ظل ينتظر مساعدة أميركية لكنه يزعم أنه لا يحصل على أي شيء مفيد. وتتلخص السياسة الأميركية في تقديم مساعدات غير قتالية، ومن بينها أدوات للقيادة والسيطرة مثل الهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية. ويبدو العكيدي رجلا عسكريا بصدره العريض وإحساسه بالثقة، وهو من نوعية الضباط الذين تأمل واشنطن في أن يبنوا قوة قتالية صلبة. وقد تعهد الرجل بأن الولايات المتحدة إذا أمكن أن تساعده في الحصول على أسلحة حديثة مضادة للطائرات والدبابات، (فسوف أمنع وقوعها في أيدي الجماعات المتطرفة). وهو يأمل في أن تقدم أميركا التدريب أيضا، ولو حتى دورة تدريبية أساسية لمدة أسبوعين قد تساعد على تكوين جيش حقيقي، إلا أنه يضيف أن الولايات المتحدة إذا لم تزوده بأسلحة يمكنها أن تقلب الموازين، فسوف يحتاج إلى مساعدة من المجاهدين الذين لديهم حرص كبير على القتال والموت، موضحا: (ليست لدي أي مشكلة مع المتطرفين إذا كانوا يقاتلون النظام. كل ما يهمنا هو أن يسقط النظام وأن يتوقف نزف الدماء)».

أهمية هذه المشاهدات الميدانية لهذا الكاتب الأميركي، هي في أنها تؤكد بالملموس ما قيل سابقا، من أن «عدم» دعم المعارضة السورية، تحديدا الجانب القتالي منها، هو الذي سيسهل لجموع المقاتلين الأصوليين ذوي الخلفيات الجهادية القاعدية، فكرا وليس تنظيما بالضرورة، أن يتولوا القيادة والعمل، على اعتبار أن الشعب السوري الثائر لن يتوقف عن ثورته حتى إسقاط السفاح بشار الأسد الذي أذل الناس واستباح كل شيء. هذا أمر بالنسبة للسوريين قضية حياة أو موت، بالمعنى الحقيقي والحرفي لهذه الكلمة.

تخاذل الغرب، أو قل غباء إدارة أوباما وجبنها، هو الذي يضعف القوى الوطنية الثورية في سوريا لصالح القوى الأصولية الجهادية.

الأهم أن هذه السياسة الحذرة والدعم الناعم، أثبتت، عمليا، عقمها وانعدام جدواها، ومكنت أكثر لتزايد أعداد المقاتلين من أصحاب الطرح الأممي الجهادي القاعدي.

وفي صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت قصة صحافية عن أن السوريين يتجهون إلى التطرف لاعتقادهم بأن العالم يخذلهم، كتبت بقلم سي جيه تشيفرز، ومما جاء في القصة أنه مع تزايد حالات الغضب من خذلان الغرب والعالم للشعب السوري فإنه يزداد عدد الجماعات المسلحة المعادية للأمم المتحدة والغرب.

القول إن دعم المعارضة السورية بالسلاح الحاسم الذي ينهي المعركة سريعا هو خطر باعتباره يصب في جيب «القاعدة» ويتسبب في حرب أهلية، هو كلام لافروف وبوتين وبقية الروس الباردين الذين لا حساسية لديهم تجاه هذه المجازر مثل غيرهم، وهو أيضا كلام قائد إيران المرشد خامنئي وضابطه الخفاش قاسم سليماني، وطبعا بشار الأسد ووليد المعلم وبثينة شعبان، وحسن نصر الله ومن معه في لبنان، وكلهم أعداء للشعب السوري الثائر، أعداء المال والسلاح والدعاية والسياسة والقتال، فلا ينتظر من العدو إلا العداوة. لكن الغريب أن هناك في الغرب الذي يدعي التعاطف مع الثورة السورية، من يردد بلا كلل ولا ملل أنه لن يسلح المعارضة ولن يتدخل عسكريا ولن يتسبب في حرب أهلية (هي واقعة فعلا)، ويخشى من المقاتلين الأصوليين في صفوف المعارضة، فأي فرق «جوهري» بقي بين أعداء وأصدقاء الشعب السوري؟!

في كل حال، أن يقدم كاتب أميركي مرموق مثل إغناتيوس، مطالعة جديدة للرأي العام الأميركي والساسة الأميركيين حول المأساة السورية، هو بحد ذاته أمر جيد، ويحمد لمن قدمه، وإن كان متأخرا بعد نحو سنتين من القتل الفاجر للسوريين على مرأى من العالم، في موقف مخجل للضمير الإنساني.

أظن أن جراح سوريا، وتآمر، أو غباء، العالم معها، ستظل حاضرة، بآثارها معنا، لعدة عقود. إن العالم يزرع بذور الحقد والكراهية والشك في سوريا، عبر هذا الخذلان المستفز والغبي، وعلى رأس من يتحمل المسؤولية الرئيس الأميركي «المثقف» باراك أوباما.

ما قاله إغناتيوس، أو ما قالته قصة «نيويورك تايمز»، بالنسبة لبعضنا في هذه المنطقة ليس جديدا، وقد بحت أصواتنا بالتحذير من مغبة خذلان الثورة السورية، وأن ما يخشى منه الغرب والعالم، إن هم دعموا الثورة، هو بالضبط ما سيحصل، إن هم خذلوها! وهذا ما حدث الآن أو ما بدأ بالحدوث، ويلطم منه الأميركيون الخدود، ويشقون الجيوب!

لا بأس بالتذكير؛ ففي 12 يونيو (حزيران) الماضي، كتب صاحب هذه السطور، في هذا المكان بعنوان: هل هو «الجهاد» في سوريا؟

ومما جاء حينها: «ما كان العقلاء يحذرون منه منذ أكثر من سنة إن لم يحتضن المجتمع الدولي والإقليمي المعارضة السورية، ويتعامل معها بنفس الميزان الترحيبي الذي تعامل به مع ثورة ليبيا ومصر واليمن، أن النهاية ستكون سوق هذه الثورة والمعارضة سوقا إلى السلاح وحرب العصابات، قيل هذا الكلام بهذا الوضوح، أكثر من مرة، ولكن القوم في غيهم يعمهون.

المضحك المبكي الآن، أن الجميع يبدي دهشة زائفة حيال إمكانية وقوع حرب أهلية في سوريا، وتحولها إلى نزاع محلي معقد، يفيض إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، حسبما تشي به تصريحات المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان، وغيره من ساسة الغرب والشرق».

وقيل أيضا: «أعتقد أن الساحة السورية الآن، بعد استفحال المجازر التي يرتكبها نظام الأسد ضد السكان المدنيين (السنة)، وحتى غير السنة من أنصار الثورة، كما جرى في مدينة (سلمية) الإسماعيلية، أصبحت ساحة مغرية لكل من يريد (الجهاد) ضد (الطاغوت) السوري الحاكم في دمشق.

لقد حول بشار الأسد نفسه إلى هدف مثالي للجهاديين، فهو مستكمل لشروط الشر المستطير والصافي، هو دموي إلى حد التوحش، وكاره لأهل السنة، وعميل لإيران. كلها مواصفات مثالية لجعل من لا يفكر في الجهاد من الشبان أو الناس الذين يرون العالم فقط على هيئة حرب بين أهل الإسلام وغيرهم، يلتهبون شوقا للقتال».

وكانت الخلاصة حينها، وهي نفسها الآن: «زبدة القول هنا، كما سبقت الإشارة في مناسبات أخرى، أن الثورة في سوريا بدأت حرة وطنية متعالية على كل النزعات الطائفية، وكان الشعار الجامع للثورة: (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد)، وكان يتم تسمية كتائب الجيش الحر بأسماء رموز وطنية مناضلة مثل سلطان باشا الأطرش وصالح العلي، الأول درزي والثاني علوي. لكن مع استمرار التخاذل، إن لم يكن التآمر الدولي، والفجور في القتل من قبل الأسد، حشر الأهالي في الزاوية، ولم يبق إلا الدفاع عن النفس بكل ما هو متاح، ومن ضمن ما هو متاح: الحرب باسم الدين».

صدق القائل:

ولو نار نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

[email protected]