ليبيا.. الديمقراطية الصعبة

TT

بين دول «الربيع العربي» التي شهدت انقلابا شعبيا على نظام الحكم ومجيء نظام جديد، كان هناك رهان على أن ظروف ليبيا أسهل من مصر وتونس واليمن في الانتقال السريع من مرحلة الفوضى التي تعقب التغيير إلى الاستقرار، بحكم عوامل كثيرة أهمها أنه يفترض أن ليبيا ليست لديها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الموجودة لدى الآخرين. فمع إنتاج نفطي يقترب من مليوني برميل يوميا ويمكن تعظيمه بسهولة وأسعار مرتفعة في السوق العالمية وعدد سكان يقل عن 7 ملايين نسمة، ستجد أي حكومة جديدة أن لديها الأدوات التي تساعدها في فرض الاستقرار بشكل سريع وتلبية طموحات الناس. وإذا كان نظام القذافي لم يترك مؤسسات قوية خلال فترة حكمه فإن البعض رأى في ذلك ميزة تسهل بناء مؤسسات جديدة دون مقاومة شديدة من مؤسسات قديمة.

لكن كما حدث في كل الحالات الأخرى، ثبت أن تغيير النظام - على الرغم من أنه جرى في الحالة الليبية بحرب ومساعدة من حلف الناتو - هو النقطة الأسهل، بينما إنشاء النظام الجديد وإعادة الحياة إلى طبيعتها والبدء في البناء للمستقبل هي النقاط الأصعب، والتي قد تحتاج إلى سنوات للوصول إليها. وهذا طبيعي، فالاتفاق المجتمعي على تغيير النظام يمكن أن يتحقق في لحظة معينة، لكن الاتفاق على النظام الجديد يحتاج إلى جهد كبير وعمل دؤوب من أجل الوصول إلى نقطة الاتفاق، خاصة إذا كان شركاء التغيير كل منهم يطالب بحصة في النظام الجديد تعادل ما بذله من تضحيات أو دفعه كثمن للتغيير.

وهذا ما اصطدم به مصطفى أبو شاقور في محاولتيه لتشكيل أول حكومة بعد انتخابات المجلس الوطني الذي صوت مساء أول من أمس باستبعاده، بعد رفض أغلبية 125 عضوا من أصل 200 تشكيلته لحكومة مصغرة انتقالية تدير البلاد لحين كتابة الدستور الجديد. فهناك مناطق شعرت بأنها لم تحظ بتمثيل يناسبها، وهناك دعوات لإبعاد الميليشيات المسلحة عن مدن ومناطق بينما تسود حالة غضب شعبي تجاهها بعد الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي.

عادت جهود تشكيل الحكومة، وهي خطوة مهمة في سبيل إعادة الاستقرار وعودة الحياة الطبيعية، إلى نقطة الصفر بعد نتيجة الاقتراع الذي حصل أول من أمس، لتجري مشاورات قد تستغرق أسابيع حول شخصية جديدة تتولى تشكيل الحكومة، وقد تواجه نفس المشكلة التي واجهها أبو شاقور الذي كان شخصية توافقية في النهاية.

مشكلة ليبيا هي نفس مشكلة دول «الربيع العربي» الأخرى في مرحلة التغيير وهي الافتقاد إلى قيادة أو شخصية يتحقق حولها إجماع أو توافق وطني ويكون لها النفوذ المعنوي لتستطيع أن تفرض تنازلات واتفاقات بين الفرقاء السياسيين تسهل عبور المرحلة.

وفي الحالة الليبية، هناك خصوصية تتعلق بوضع الميليشيات المسلحة التي لعبت أدوارا مختلفة في الإطاحة بنظام القذافي لكنها لم تلق السلاح حتى الآن أو تقبل بأن تندمج تماما في جهاز الدولة الجديد، وهي قد لا تكون تحظى بالثقل الجماهيري أو الشعبي كما لوحظ في المظاهرات التي خرجت ضدها في بنغازي بعد هجوم القنصلية، لكنها لا يزال لديها السلاح.

وهي قضية يجب أن تحتل أولوية لدى الأحزاب والتكتلات السياسية الليبية المتمثلة في المجلس الوطني إذا أريد إعادة فرض الاستقرار، فلا توجد دولة عصرية تقبل بأن يحمل السلاح على أرضها أحد غيرها، وهناك صيغ كثيرة طبقت سابقا لاستيعاب المسلحين والميليشيات في مرحلة إعادة بناء الدولة بعد حرب أهلية أو صراع داخلي.

أما مسألة المناطقية والمطالبة بحصص في الحكومة، فيجب أن تكون رهن توافق وصيغة تقنع الجميع، لأنه مهما كانت مهارة رئيس الحكومة الذي يكلفه المجلس الوطني فإنه لن يستطيع أن يرضي الجميع. وإذا كان المجلس المنتخب هو صاحب السلطة السياسية الآن، فلا بأس من أن تكون شخصيات الحكومة من تكنوقراط أو خبراء لديهم القدرة على تدوير المؤسسات وإعادة تنشيط الاقتصاد. فالجميع سيستفيد من الاستقرار وما قد يأتي به من فوائد سواء على صعيد صادرات النفط أو جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط لزيادة طاقته.