الكل يفتي

TT

نسمع هذه الأيام عن أشخاص لا علاقة لهم بالعلم من قريب أو بعيد، وعلى الرغم من ذلك يصفون أنفسهم بأنهم علماء ويختلقون نظريات لا أساس لها، وبالتالي يفتعلون المشكلات وينشرون الإشاعات بين الناس. ومن أمثلة هؤلاء أحد الأطباء الإنجليز، والذي خرج علينا بنظرية غريبة مفادها أن الملك توت عنخ آمون كان يعاني من مظاهر أنثوية، وأنه مات بسبب تضخم الثدي، وأنه كان أعرج. والغريب بل المفاجأة، أنه أعلن عن توصله إلى ما سماه الكشف المذهل عن طريق رؤيته لتماثيل ونقوش الملك توت عنخ آمون، والتي نرى فيها بوضوح تضخم الثدي! بالطبع هو قد يكون طبيبا متخصصا في مجاله، لكن ما هي علاقته بالفن المصري القديم؟! وما هي حدود معلوماته عن فترة ما يعرف بالعمارنة، نسبة إلى تل العمارنة التي عاشت بها عائلة الملك إخناتون، ومنهم الملك توت نفسه؟! المعروف أن فن العمارنة كان يعبر عن حالة خاصة عاشتها مصر في عصر الملك إخناتون، الذي نادى بتوحيد الإله الخالق وسماه آتون، وكان الفن في عصره معبرا عن فكرة الإله الواحد، والذي وصف في أنشودة إخناتون بأنه، أي الإله الخالق، هو الذكر والأنثى، ولذلك نرى في فن العمارنة التعبير عن الذكر والأنثى، وليس معنى هذا أن ملوك ونبلاء تلك الفترة كانوا مخنثين.

كان يجب أن يتم الرد على هذا الطبيب عمليا ولكن في القاهرة أعلن أن هذا الخبر فجر مشاعر الغضب لدى الأثريين، وقال أحدهم إن الطبيب الإنجليزي حصل على عينات الحامض النووي من مومياء توت عنخ آمون، في الوقت الذي لم يعلن فيه الطبيب حصوله على أي عينات، بل جاء شخص آخر يطلق على نفسه أنه متخصص في علم المومياوات والتحنيط، ولا يوجد علم بهذا الاسم إلا لدى قدماء المصريين؛ وأعلن رفضه لدراسات الغرب لخوفه من ظهور نظريات مشوهة عن الفراعنة، أما المضحك والمبكي في ذات الوقت، أن هذا العالم المزعوم قال إن هدف الطبيب الإنجليزي هو تشويه الحضارة المصرية والإساءة إلى ملوكها بإظهارهم مخنثين وعرجاء، وأن هذا الطبيب نقل هذه المعلومات عن الجمعية الطبية الأميركية التي فحصت المومياوات الملكية، ولما سئل هذا العالم المصري الفذ عن سبب موت الملك توت عنخ آمون قال بكل ثقة ويقين إنه مات مقتولا قتله الملك، أي الطاعن في السن لكي يحكم بدلا منه ويتزوج بزوجة توت الشابة الصغيرة. لم أجد أمامي غير أن الضحك على ما وصلنا إليه من استخفاف لعقول الناس. فهكذا وبكل بساطة حول العالم المصري الفراعنة إلى خونة وقتلة. ولا تسأل عن دليل فإن من يزعم العلم هم الجهلاء وليس هناك عالم يقول إنه عالم، ومن قال إنه علم فقد جهل. وإذا كان الطبيب الإنجليزي قد أخطأ عن غير سوء نية فإن المصري قد شوه حضارته عن جهل، ولو كلف نفسه مشقة البحث لعلم أن فريقا مصريا متخصصا في كافة علوم الطب قام بدراسة مومياء الملك توت عنخ آمون لأول مرة دراسة علمية متكاملة ونشر نتيجة بحثه في أكبر دورية طبية في العالم وهي «جاما» الطبية وبها وصف كامل لكل ظروف ونتائج البحث وبالأسانيد الطبية.. وهو موضوع المقال القادم إن شاء الله.