الانتخابات الأميركية: إنه ليس الاقتصاد يا غبي!

TT

غالبا ما يقع النقاد الأميركيون أسرى للعبارات والصيغ الجذابة، وخير مثال على ذلك عبارة «إنه الاقتصاد يا غبي!» التي ظهرت لأول مرة خلال الحملة الانتخابية الأولى للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. وألقت هذه الجملة التي لا معنى لها بظلالها على السياسة الأميركية على مدى عقود طويلة، وكان مجرد النطق بها يحسم بعض المناقشات ويقدم المتفوه بها على أنه رجل يتسم بالحكمة.

وبالتالي، يتم تقديم الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية على أنها صراع بين برامج اقتصادية تتنافس فيما بينها. ولكن إذا ما أمعنا النظر فسوف نكتشف أن الصورة أكثر تعقيدا مما نعتقد، حيث أصبح السباق الرئاسي الآن، وأكثر من أي وقت مضى، يدور حول الرؤى المتنافسة للولايات المتحدة. وقبل ظهور باراك أوباما على الساحة، كان كل من يطمح في الوصول لكرسي الرئاسة يتفق على عدد من المعتقدات، أو الأساطير المؤسسية إذا كنت تفضل ذلك المصطلح، فيما يتعلق بالولايات المتحدة، ولكن جاء أوباما ليشكك في تلك المعتقدات بمزيج من الانزعاج والحس الفكاهي.

وأول هذه المعتقدات الخصوصية الأميركية، فمنذ الرئيس جورج واشنطن وحتى جورج دبليو بوش كان جميع الرؤساء الأميركيين مقتنعين، أو يتظاهرون بأنهم مقتنعون، بأن الولايات المتحدة هي أمة خاصة وظاهرة غير مسبوقة وفريدة من نوعها على مر التاريخ.

وحاول أوباما أن يفضح هذا الزيف من خلال الإشارة إلى أن بعض الدول الأخرى، مثل اليونان على سبيل المثال، يمكن أن تدعي «الخصوصية». ولو كانت «الخصوصية» عبارة عن شعور موجود في كل الدول والأمم، فإن الادعاء بأنه يقتصر على الولايات المتحدة وحدها سيكون لا معنى له، لأنه لو ادعت كل دولة أنها تتميز بالخصوصية فلن يكون هناك أي معنى لكلمة الخصوصية من الأساس.

والاعتقاد الثاني الذي تم التشكيك فيه من قبل أوباما هو أن مصير الولايات المتحدة أن تكون أمة قائدة، وأن الولايات المتحدة نتيجة لنشأتها الخاصة، قد قادت الإنسانية بعيدا عن الحكم التعسفي، علاوة على أن حرب الاستقلال، التي يطلق عليها الأميركيون اسم «الثورة»، كانت هي مصدر الوحي للثورة الفرنسية، ومن ثم التجارب الثورية الأخرى في جميع الدول الأخرى، وأن الزعامة الأميركية في الحربين العالميتين والحرب الباردة قد أنقذت البشرية من هيمنة القوى الشمولية.

وقد تحدى أوباما هذا الاعتقاد من خلال اعتماده على استراتيجية «القيادة من الخلف»، كما اعتذر عن «السلوك السابق» للولايات المتحدة، وأشار إلى أن الولايات المتحدة لا تطمح أن تكون القوى المهيمنة الوحيدة في العالم. وكان جميع رؤساء الولايات المتحدة، منذ جيمس مونرو، قد وضعوا «مبدأ» لتعريف القيادة الأميركية، ولكن أوباما لم يفعل ذلك.

ويتمثل الاعتقاد الثالث الذي شكك فيه أوباما في أن الفردية الأميركية تستند إلى أساطير الرواد وساكني التخوم أو الحدود، كما هو واضح من خلال فيلم «الحارس الوحيد» مثلا. ووفقا لهذا الاعتقاد، فإن الفرد هو من يقوم بالاكتشافات العلمية والتكنولوجية ويخلق الفن والثقافة وينتج الثروة. وتزخر الولايات الأميركية بالكثير من الرموز التذكارية التي تخلد الأفراد الذين حققوا إنجازات استثنائية في جميع مناحي الحياة.

وشكك أوباما في هذا الاعتقاد من خلال تأكيده أن الأفراد لن يحققوا الكثير من الإنجازات من دون الدعم الاجتماعي، بما في ذلك الدعم الحكومي. فعلى سبيل المثال، لم يكن السباح الأميركي مايكل فيلبس الذي فاز بست ميداليات ذهبية وفضية في أولمبياد لندن يحقق أي شيء من دون مساعدة المدربين والرعاة. وبالإضافة إلى دور الآباء والأمهات، يحتاج المرء إلى «قرية بأكملها لتربية طفل»، كما يقول المثل الشهير.

ونجد في هذا الصدد أن وجهات النظر التي يتبناها أوباما قريبة من تلك التي يؤمن بها الديمقراطيون الاشتراكيون الأوروبيون الذين يدعون أنه لولا التوجيه والدعم والتنظيم من قبل الدولة لما تمكن الفرد من تحقيق الكثير، كما أنه سيضر نفسه ويضر المجتمع ككل. وتعد المبادرة التي قدمها أوباما في مجال الرعاية الصحية هي المثال الأكثر دراماتيكية على الاعتقاد بأن الأفراد بحاجة للدولة، حتى لتلبية احتياجاتهم الصحية.

ويتمثل الاعتقاد الرابع الذي عارضه أوباما في ضرورة استخدام «عصا كبيرة» لتحقيق أمن أميركا. وباستثناء الهجوم الياباني على بيرل هاربر في عام 1941، لم تواجه أميركا مطلقا أي غزو منذ عام 1812، وقد كان الخوف من اعتداء أجنبي والسعي للتفوق العسكري ركيزتين أساسيتين في السياسة الأميركية. تعج الذاكرة الجمعية الأميركية بصور لحروب، بدءا من حرب الاستقلال إلى الحرب الأهلية والحروب الهندية والحروب مع المكسيك وإسبانيا والحربين العالميتين والحروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، ناهيك بالحملات العسكرية الأحدث في أفغانستان والعراق.

لقد حاول أوباما تحويل التركيز إلى «القوة الناعمة»، التي تشمل قدراته على الإقناع، لتحقيق الأمن الأميركي. لقد قاد التخفيضات الهائلة في ميزانية الدفاع مع وعود بالمزيد، في حالة إعادة انتخابه لفترة رئاسية أخرى. ويأمل أوباما أن تصبح أميركا، تحت زعامته، محبوبة لا مرهوبة.

في المقام الأول، اجتذب 200 ألف شخص في برلين قبل أن يصبح رئيسا وفاز بجائزة نوبل للسلام حتى قبل أن يقوم بأي شيء. وربما من دون أن يعلم، صدق على مقولة فيتغنشتاين: «احتمالية فكرة تضمن مصداقيتها!».

إضافة إلى ذلك، فإن أوباما أيضا منزعج من اعتقاد أميركي تقليدي خامس، وهو سيادة اللغة والأدب الإنجليزيين كقنوات للتعبير الذاتي الوطني. وجنبا إلى جنب مع المنتمين لتيار ما بعد الحداثة في أوروبا، يؤمن أوباما بالقيمة المتساوية لجميع اللغات والآداب، بوصفها تعبيرا عن التعددية الثقافية. إضافة إلى ذلك، فإنه على غرار المنتمين لتيار ما بعد الحداثة في أوروبا، يرفض أي تصنيف تسلسلي هرمي للثقافات باسم الاحترام، حتى عندما لا يكون موضوع الاحترام محل احترام.

ثمة اعتقاد سادس يرفضه أوباما ضمنيا، وهو وجود تاريخ وطني يعود إلى الأب المؤسس. بالنسبة له، تمثل الولايات المتحدة واقعا دائم التغير، أو بتعبير هيغل، «تحول» لا «ثبات». لقد ظل مؤسسو البروتستانت الأنجلوساكسون البيض في تراجع دائم منذ وصول أعداد هائلة من العبيد السود قادمين من أفريقيا.

وفي القرن التاسع عشر، استوعبت الولايات المتحدة ملايين المهاجرين من أوروبا، ومنذ سبعينات القرن العشرين، كانت مقصدا لثلاثة ملايين مهاجر سنويا، ناهيك بالعمال الذين يعبرون الحدود الأميركية بطرق غير شرعية. وفي خلال العقود الثلاثة الماضية، أتت الغالبية العظمى من المهاجرين الجدد من «دول نامية» في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وفي أكبر ثلاث ولايات أميركية من حيث تعداد السكان، وهي كاليفورنيا ونيويورك وتكساس، يبدو البروتستانت الأنجلوساكسون البيض أقلية بالفعل أو على وشك أن يصبحوا أقلية في غضون عقد. لقد تحولت الدولة التي يشكل فيها المهاجرون من ثقافات مختلفة معا مجتمعا متكاملا إلى دولة تضم مجتمعات متوازية يزعم فيها الأفراد أنهم أصحاب هويات مزدوجة.

وبإبراز هويته الأفريقية، التي تأتي على النقيض لهويته الأميركية الأفريقية، الممتزجة بخلفية إسلامية وطفولة آسيوية، وتحول محتمل إلى المسيحية، يظهر أوباما كأميركي أصلي.

وليس من المفاجئ أن يأتي أقوى دعم لأوباما من جانب أقليات، أبرزها الأميركيون من أصل أفريقي واللاتينيون واليهود والعرب والمسلمون والأميركيون الأصليون، إضافة إلى أقليات اجتماعية، مثل الشواذ جنسيا، والمؤيدين لحقوق المرأة.

لقد علمنا أرسطو أنه في أي نظام ديمقراطي يجب أن يحاكي القادة الشعوب التي يمثلونها. ومن ثم، فالسؤال الحقيقي في هذه الانتخابات الأميركية هو: هل يحاكي باراك أوباما أو ميت رومني - ليس جسمانيا ولكن ثقافيا وفلسفيا - غالبية الأميركيين الجدد الذين نشأوا في العقود الأخيرة؟!

السؤال هو: ما الوضع الذي تعتقد أميركا أنها عليه، وما الوضع الذي ترغب في أن تصبح عليه؟ إنه ليس الاقتصاد يا غبي!