المرغوب والممكن والقانون

TT

المسافة بين المرغوب والممكن قد تقاس بالأميال الجغرافية، أو بفارق التطور الزمني، بين مجتمعين أو بين ثقافتي فهمهما لدور القوانين في الديمقراطية.

ترحيل أبو حمزة المصري إلى أميركا ليمثل أمام قضائها استغرق ثماني سنوات من معارك قضائية في المحاكم الإنجليزية، ثم المحكمة الأوروبية ثم المحاكم الإنجليزية لتحكم لصالح وزيرة داخلية بريطانيا تريزيا ماي - لأن القضاء يتعامل مع أشخاص وليس مؤسسات (إلا في القضايا التجارية).

طوال المعارك القضائية تمتع أبو حمزة وأصحابه (استغرقت قضايا زملائه 14 عاما) برعاية اجتماعية ورعاية صحية يتحملها دافع الضرائب البريطاني، الذي تحمل أيضا مصاريف فريق محامي المتهمين التي فاقت خمسة آلاف دولار في الساعة الواحدة لم يدفع منها أبو حمزة مليما واحدا. الخزانة البريطانية أنفقت ملايين الجنيهات دفاعا عمن يهددون أمن البلاد، لأن القانون واضح في ضرورة دفع نفقات محامي المتهم العاطل عن العمل، وقضاء يفسر الشك في دليل واحد من عشرات الأدلة لصالح المتهم. فمثلا يعطل محامو الأردني أبو قتادة (وهو الآخر تتحمل الدولة نفقات محاميه) قرار ترحيله إلى بلاده بتشكيك القضاة الإنجليز في أدلة إدانته في الأردن لاحتمال اعتراف شريكه تحت التعذيب.

نماذج أبو حمزة وأبو قتادة تظهر الدولة البريطانية في دور «العبيط» في فيلم هزلي. إحدى زوجتي أبو حمزة تتلقى إعانة اجتماعية شهرية وتقيم في مسكن ثمنه مليون ونصف المليون دولار في حي لا يقدر غالبية الإنجليز على دفع إيجاراته. الإيجار والفواتير تدفعها الشؤون الاجتماعية التي لا تزال تجدد سنويا سيارة people carrier توفرها لأسرة أبو حمزة من شركة «تويوتا» من 80 ألف دولار لتعديلها لقيادة المعوقين وكي تتسع لأسرته (له تسعة أولاد اعتقل اثنان منهم في اليمن بعد تورطهما في اختطاف سائحين). خمسة من أولاد أبو حمزة يتلقون إعانات اجتماعية ومساكن مجانية من البلدية.

في كل خطبة جمعة في مسجد فينسبري بارك حيث عين أبو حمزة نفسه إماما، كان يسب جلالة الملكة، وبريطانيا «دار الحرب» (داعيا المسلمين لقتل كل من يلتحق بالجيش) وأرض الكفار لأنها لا تطبق الشريعة. وكان البوليس يقف لحراسة المصلين من غضب أهالي الحي ويمنع المرور في الشارعين المجاورين للمسجد.

سألته مرة: لماذا لا يغادر أرض الكفار إلى أرض إيمان؟

أجاب: «إنها الضرورة يا أستاذ، كدخول المرحاض رغم نجاسته».

ولا يختلف خطاب بقية الإسلاموجيين عن خطاب أبو حمزة وإهانته للشعب الذي يدفع من ضرائبه لدعمه وزوجتيه وجيش أولاده، ومصاريف المحامين الذين يدافعون عن إهاناته للملكة ورعاياها. حسب ثقافة البلدان التي لا يعتبرها أبو حمزة أرض الكفار، فالمرغوب، منطقيا، يكون ترحيل أبو قتادة الداعي لتطبيق الشريعة ليمثل أمام قضاة مسلمين في بلاده. وترحيل أبو حمزة وأصحابه ليقيموا بين المؤمنين في بلد إسلامي يطبق الشريعة كباكستان حيث ترتعد فرائص مقاتلي الطالبان الأشاوس رعبا من المواظبة المدرسية لتلميذة في الرابعة عشرة فيطلقون النار على رأسها.

ترحيل هؤلاء يبدو عدالة للرأي العام في بلدان (لا تسمح حكوماتها بتواجد أمثال أبو حمزة) خارج الدول الأوروبية التي استحال عليها عبور المسافة بين المرغوب (كعدل بديهي) والممكن قانونيا.

لن تجرؤ حكومة بريطانية منتخبة ديمقراطيا على خرق قانون البلاد، حتى ولو «استعبطها» أبو حمزة أمام العالم؛ وهذا بدوره يظهر المسافة الثقافية بين المرغوب والممكن.

متابعات تعليق البريطانيين المسلمين على «تويتر» وما شابهه تشير إلى ارتياحهم لترحيل أبو حمزة، وأصحابه، مع غضبهم الشديد من طول المدة التي استغلوها لتقديم أسوأ صورة عن الإسلام والمسلمين، حيث كانت دعواتهم للكراهية والتحريض على القتل تتم في خطب صلاة الجمعة من فوق المنابر، مؤكدين أنها واجب كل مسلم مثلما يدعو الدين. والصحافة تتابع التطرف والجنون باهتمام، لأن المنطقي والمعتاد ليس خبرا في أي مكان في العالم.

هياج المسلمين احتجاجا على فيلم هزيل المحتوى والتقنية صنعه مخبول في أميركا يثير أيضا تعليقات كثير من البريطانيين المسلمين حيث تظهر المسافة الشاسعة بين المرغوب والممكن.

وهنا يتوجب الحذر من خطأ ارتكبته بعض الصحف العربية بترويج خبر إلقاء السلطات الفيدرالية القبض على منتج الفيلم بإظهاره وكأنه انتصار للمرغوب، وأن الاحتجاجات أرغمت السلطات الأميركية على اعتقال المنتج.

ومن الصعب معرفة النوايا الحقيقية ودوافع السلطات الفيدرالية في اعتقال منتج الفيلم (تماما مثل صعوبة معرفة النوايا الحقيقية لفريق الدفاع عن أبو حمزة ونوايا محامي أبو قتادة) لكن الواقع أن السلطات الفيدرالية اعتقلت منتج الفيلم لخرقه قانونا جنائيا لا علاقة له بالفيلم. فالمنتج نفسه كان مقبوضا عليه في تهم تزوير وتحايل على مصلحة الضرائب والتهرب منها، وأودع السجن ثم أفرج عنه مؤقتا بشروط البقاء في مكان معروف للسلطات وعدم ممارسة أنشطة تجارية، لكنه خالف هذه الشروط، ثم هرب من مكان الإقامة، أي ارتكب مخالفة جنائية كانت سبب القبض عليه وليس إنتاج الفيلم.

هذه الملاحظة بالغة الضرورة، خاصة أن بعض المسلمين يتهم الديمقراطيات الغربية بازدواجية المعايير. ضربوا أمثلة بقرار محكمة فرنسية بمنع مجلة فرنسية من إعادة نشر أو بيع صور كاثرين دوقة كمبردج، زوجة الأمير ويليام بينما ترفض إصدار أحكام لمنع عرض أو نشر ما يعتبره المسلمون إساءة. وهذا خلط ما بين الممكن، وهو حكم المحكمة، والمرغوب، وهو مطالب المسلمين. المحكمة أصدرت الحكم بعد ثبوت مخالفة قانون الخصوصية الفرنسي الذي يمنع التصرف في صور التقطت لشخص بغير إذنه باعتبارها ممتلكاته، ولا قيمة للقرار في بلدان لا تعرف هذا القانون، فنشرت مطبوعاتها الصور بلا مساءلة. القضية رفعها الأمير ويليام وزوجته كفردين أثبت محاميهما تضررهما مباشرة من التقاط الصور ثم نشرها، والخصم كان رئيسة تحرير المجلة التي أمرتها المحكمة بإرجاع الصور إلى مالكتها القانونية، كاثرين بجانب تعويض من رئيسة التحرير التي دفعت غرامة عقابا على مخالفة القانون.

القوانين في الديمقراطيات الغربية تحمي حقوق الأفراد وليس معتقداتهم ولا تحمي رموزا أو مؤسسات (عند تغريم المؤسسات في قضايا تجارية أو الحكم بتعويض المستهلكين عن بضاعة لا تطابق المواصفات، لا يتعرض مديرو المؤسسات للعقوبة أو دفع الغرامة من جيوبهم).

ولذا إذا تمكن مسلم من جمع أدلة مادية تقنع قضاة محكمة ومحلفيها بتضرره كفرد أو تحمله خسائر مادية نتيجة نشر صور أو كتاب أو تمثيلية يطالب المسلمون بمصادرتها، فيمكن في هذه الحالة فقط أن يخرج الشاكي بنتيجة مثل التي أحرزها الأمير ويليام وزوجته في المحكمة الفرنسية.