حروب الوثائق والتسريبات

TT

أجبرت الانتفاضات والاحتجاجات الكبرى في الجمهوريات العربية كثيرا من وسائل الإعلام على التخفيف من صرامتها في التأكد من مصداقية بعض الصور ومقاطع الفيديو التي تصل إليها وذلك بسبب ضخامة الأحداث والتضييق الإعلامي الذي يصل لمنع وطرد وسائل الإعلام من تغطية المشهد أو من البلاد بأسرها، وما يجري في سوريا مثال صارخ في هذا السياق حيث آلة القتل البشعة لا تتوقّف بل تتصاعد بين حين وحين ووسائل الإعلام أكثرها ممنوع من دخول البلاد، وقد طوّر السوريون آلياتهم في تغطية الأحداث بالصور ومقاطع الفيديو عبر كتابة مكان الحدث وتاريخه أو النطق به أثناء تصوير المقطع.

ثمة حروب واضطرابات كبرى في المنطقة، منها الحرب الإيرانية الباردة ضدّ العرب وهي حرب طويلة الذيل في التاريخ واسعة الحضور في الجغرافيا، وتعتبر حرب النظام السوري ضدّ شعبه جزءا من هذه الحرب وإن كانت هي الأبشع حتى الآن، وككثير من الحروب تدخل حروب الوثائق والتسريبات على المشهد وتكبر كلّما أصيب المشهد بالإعاقة والتسويف وعدم الحسم.

قبل الاحتجاجات العربية الكبرى منذ ما يقارب العامين دخل على الوعي الشعبي العربي حدث كبير ومؤثر شكّل وعيا جديدا بأهمية الوثائق السياسية وقيمتها ومدى تأثير تسرّبها على سياسات العالم وفهمه، كان ذلك الحدث هو نشر «ويكيليكس» في عام 2010 لعشرات الآلاف من الوثائق حول الحرب في أفغانستان، ثم تلتها بمئات الآلاف من الوثائق حول الحرب في العراق، وألحقتها أخيرا بوثائق الدبلوماسية الخارجية الأميركية، وبغض النظر عن الجدل الكبير سياسيا وإعلاميا الذي أثارته تلك الوثائق إلا أنّها صنعت وعيا شعبيا بأهمية الوثائق في كل الصراعات لا في الحروب فحسب، ولئن وجد فيها عشّاق التفسيرات التأويلية منهلا خصبا لدعم أفكارهم أنّى كانت توجّهاتهم فقد وجد فيها بعض الباحثين أجوبة مهمة لأسئلة كانت معلقة فيما يتعلّق بتلك الحروب أو فهم السياسة الدولية بشكل عام، والأهم هنا هو أنّ بعض غير المختصين من الروّاد الجدد للشبكة العنكبوتية وبعض الصحف الصفراء أخذ يداعب القرّاء والمتابعين بما يتناسب مع توجه كل منهم بأخبار منتقاة من تلك الوثائق بما يمكن وصفه بوعي شعبي جديد بأهمية الوثائق.

أثناء لحظات الاضطراب الكبرى التي عاشتها دول الاحتجاجات العربية قامت مجموعات منظّمة بالهجوم على بعض المقرّات الأمنية وأقسام الشرطة كما جرى في مصر وتمّت سرقات كبرى للوثائق الرسمية وأحرق الكثير منها وتطاير بعضها في الهواء حتى وصلت قلّة منها لبعض الباعة البسطاء على أرصفة ميدان التحرير كما ذكر في الإعلام حينذاك.

خرج الأسبوع الماضي مقطع مسرب لرئيس حركة النهضة في تونس راشد الغنّوشي تحدّث فيه حديثا مثيرا حول عدد من القضايا الملحّة في المشهد التونسي. فهو قال إن العلمانيين مازالوا يحكمون البلاد على الرغم من فوز النهضة في الانتخابات، وإنّ الجيش والشرطة والإدارة بأيديهم، وحرّض الشباب السلفيين الذين كان يخاطبهم على الانتشار في كل مساجد البلاد واستدعاء أمثالهم من خارج البلاد، وحين خرج متحدث باسم النهضة للتعليق لم ينف الحوار بل أقرّه ولكنّه شكك في أنّه تمّ التلاعب في بعض عباراته وأخرجت من السياق العام.

أرسل الغنّوشي رسائل طمأنة متعددة للدول الغربية وللنخب والتيارات والأحزاب العلمانية في بلاده أنّه وحركته الإخوانية لن يستأثروا بالحكم دون غيرهم من الفرقاء وهو ما خرج مؤخرا الرئيس التونسي المنصف المرزوقي يشتكي من أن حركة النهضة تقوم بالعكس تماما، ما يوضح أن تصريحات الغنوشي لم تكن أكثر من ذر للرماد في العيون.

وفي هذا المقطع المسرّب يحرّض السلفيين الذين جزء مهم منهم يشكل القاعدة الشعبية لحركة النهضة على الانتشار بلا قيود بعد سقوط النظام السابق، ويحرّضهم على العلمانيين في البلاد عبر التحذير والتضخيم واجترار فزّاعة النظام السابق، ثم لم يلبث أن سلّط عليهم قوّات الدولة تقتل وتجرح وتعتقل حين أحس بتهديدهم لمشروعه السياسي وصورته لدى الغرب.

إنكار الغنّوشي وحركته للمقطع المسرّب الأخير ليس إنكارا قاطعا ولكنّه يكتفي بالحديث عن إخراج العبارات والمواقف من سياقها العام، ولكن المتابع يستطيع أن يتذكّر بسهولة أنّ الغنّوشي صرّح في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في «معهد واشنطن للشرق الأدنى» وقال: «الثورات تفرض على الملكيات العربية اتخاذ قرارات صعبة، فإما أن تعترف بأن وقت التغيير قد حان، أو أن الموجة لن تتوقّف عند حدودها لمجرّد أنها نُظم ملكية. الجيل الشاب في السعودية لا يعتقد أنه أقل جدارة بالتغيير من رفاقه في تونس أو سوريا»، ولخطورة هذه التصريحات على علاقته وعلاقة حركته مع دول الخليج التي تحتاجها اقتصاديا فقد خرج هو وغيره من حركة النهضة لينفي ذلك التصريح جملة وتفصيلا فما كان من معهد واشنطن إلا أن قام ببثّ الحديث كاملا على الشبكة العنكبوتية.

هذه الفكرة التي كان الغنوشي قد طرحها وروّج لها بعض الإخوان المسلمين وتبعهم بعض المثقفين العرب من أنّ عام 2011 هو عام الانتفاضات ضد الجمهوريات العربية وأن عام 2012 سيكون عام الانتفاضات ضد الأنظمة الملكية فضلا عن ثبوت خطئها عمليا فقد كانت فكرة ساذجة عند قراءتها واقعيا وسياسيا.

عرضت بعض وسائل الإعلام مؤخرا عددا من الرسائل التي حصل عليها بعض محترفي التقنية الإلكترونية الذين قالوا إنّهم وصلوا للبريد الإلكتروني الشخصي لبشار الأسد وألقت ضوءا على شخصيته والدائرة المقربة منه، كما عرضت بعضها وثائق أخرى حول أحداثٍ محددة داخليا وخارجيا أوضحت كيفية إدارته للازمة.

إنّ حروب الوثائق والتسريبات جزءٌ مهم من دور الإعلام في الحروب السياسية والعسكرية، ذلك أنّ الوثائق والتسريبات في لحظات الحروب أو الاضطرابات لا تكتسب دورها من مصداقيتها فحسب، فذلك دور الباحث والمختص القادر على استخدام مناهجه البحثية للتأكد والتمحيص ولكنّها تكتسب ذلك الدور من مدى وحجم التأثير الذي تحدثه على صعيد السياسة وتوجيه الرأي العام والتجييش.

بين «البروباغندا» و«المهنية» بون شاسع في عالم الإعلام، فحين تختار الأولى التجييش والحشد والتوجيه والدعاية لموقف معين وإن بالكذب والخداع والتلاعب، فإنّ الثانية تلتزم بالموضوعية وليس الحياد بالضرورة وتتقصّد الحرص على المصداقية، ولكنّ لحظات الحروب أو الاضطرابات تشهد انزياحات جديرة بالرصد والقراءة.