الصراع الجديد على سوريا

TT

لم يكن يخطر على بال أهم خبير سياسي وأعرق مراقب ومنظر لمنطقة الشرق الأوسط؛ فضلا عن السوريين أنفسهم، أن مطالبتهم بالحرية والكرامة ستقودهم إلى هذا الطريق المليء بالدمار وبالأشلاء والدماء. لقد ظن السوريون، حسب ما قاله الأستاذ عدنان الشغري (رئيس بلدية بانياس سابقا)، أن القوى الكبرى ستبارك الربيع العربي أينما حل في وطننا الكبير. وساد الاعتقاد بأن النظام السوري لا يمكن أن يكرر حماقة الثمانينات ليس بسبب تحسن أخلاق النظام وانضباطه بالقيم الإنسانية؛ لا، بل على اعتبار أن تطور أنظمة الاتصالات والإعلام بما توفره من سرعة نقل الحدث سوف تضعه وتضع داعميه في ورطة أخلاقية يصعب تبريرها شعبيا، ناهيك بالاعتقاد بأن عصر الإبادات البشرية والمجازر الجماعية قد ولى إلى غير رجعة، خصوصا بعد اللطخة السوداء التي أحدثتها مجزرة سريبرينيتشا على جبين الإنسانية حيث تعهد العالم بأجمعه بعدم السماح بتكرارها.

لكن بشار الأسد لم يكرر حماقة أبيه فحسب؛ بل تعداها بمئات المرات، فإذا كان حافظ الأسد يسجن المعارض أو يعذبه ثم يقتله، فإن بشار الأسد يقتل مشيعيه أيضا ويحرمهم من إكرامه ويجبر من بقي منهم على دفنه سرا في حديقة بيته أو الحدائق العامة.

لقد سارت الركبان بأخبار السوريين حتى وصلت إلى أصقاع الأرض في دقائق قليلة، وفعلا لقد أدى التطور الهائل في وسائل الاتصالات والإعلام دوره الكبير في إيصال آلام السوريين ورسالتهم إلى العالم، خصوصا إلى القوى الكبرى المتنفذة في شؤون الشرق الأوسط وبالتحديد الولايات المتحدة. وإذا كانت هذه القوى لا تهتم بدماء السوريين كما لم تهتم بدماء غيرهم من شعوب الأرض المظلومة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، فإن عليها أن تهتم كثيرا برسالة السوريين وتفهمها جيدا، فهي رسالة لها ما بعدها. والرسالة بسيطة، لكنها غير مطمئنة لهم أبدا، وهي تتجلى في فلسفة جديدة تبناها الشعب السوري منذ بداية ثورته اختصرت بكلمات عظيمة هي «الموت ولا المذلة». إنها فلسفة من أحرق مراكبه ولم يعد أمامه إلا مواصلة المسير حتى تحقيق الهدف أو أن يهلك دونه. وما دام هلاك الشعب مستحيلا، فإن الهدف سيتحقق.

في الحقيقة، أن رسالة السوريين قد وصلت وفهمت تماما، وفلسفتها الجديدة قد أركعت الشرق والغرب قبل أن تركع النظام، ولذلك كان الالتفاف على هذه الثورة ومن ثم التآمر عليها أملا في إجهاضها وإن لم يستطيعوا ففي سرقتها. لقد كثرت المؤامرات على الثورة السورية من جميع الأطراف؛ عربية وأجنبية، شرقية وغربية. فمنذ البداية، لم يعطوها صورتها الصحيحة بأنها ثورة شعبية من أجل الكرامة والحرية على الظلم والطغيان وأنها قوبلت بالحديد والنار، بل تم تصويرها على أنها تمرد مسلح على النظام وذلك من خلال التنسيق معه في دفعها نحو التسلح. ثم كان رميها بتهمة الدعم الخارجي بما يوحي بأنها حرب بالوكالة، أي إن سوريا قد تحولت إلى ساحة من جديد للصراع الدولي والإقليمي. وليت شعري لو أن الشعب السوري يقاتل وكالة عن أضعف دولة في العالم لانتصر منذ زمن. والحقيقة أن النظام هو الذي يقاتل الشعب السوري وكالة عن الشرق والغرب وعن بعض العرب أيضا.

والحرب بالوكالة التي يلمحون إليها قد انقضى عهدها بعد انهيار جدار برلين وانقضاء عهد القطبين وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم.. ثم إن الذي يدعم هذه المزاعم، وهم للأسف من أدعياء الفهم والعلم بالسياسة الدولية والإقليمية، يتجاهلون أن كل الأطراف المتنازعة في سوريا اليوم مرتبطة كليا بالقبعة الأميركية من إيران إلى روسيا وتركيا ودول عربية عديدة، ويستغفلون أيضا ذلك الفيتو الأميركي على إدخال السلاح النوعي إلى سوريا، ويجهلون تماما حقيقة أن عدم إدخال السلاح النوعي للثوار غايته الأولى هو ضمان استمرارية الحرب وليس حسمها. لكن الغريب في هذه المزاعم هو الجمع بين الادعاء بوجود تنظيم القاعدة في سوريا ومن ثم الزعم بأن النزاع في سوريا هو حرب بالوكالة. وحقيقة الأمر في سوريا هو أن الدول المتنفذة في منطقتنا وعلى رأسها الولايات المتحدة دعمت إدخال السلاح غير النوعي إلى الثوار إثباتا لمزاعم النظام وافتراءاته بوجود الجماعات المسلحة المدعومة من الخارج، وبالتالي إعطاؤه ذريعة للقتل والتدمير، فهم يريدون أن يتسلموا من بشار الأسد أطلالا وليس بلدا.

ثم جاءت محاولة اختراق الثورة وبث النزاع الداخلي فيها عن طريق ما يشبه مجالس الصحوة في العراق؛ ذلك المشروع البريطاني المنشأ. ومجالس الصحوة في سوريا الآن هي تلك التجمعات التي تريد الهيمنة على العمل الثوري وتخضعه لمآربها المريبة سواء أكانت مجالس عسكرية أم سياسية، وليست تلك التي تريد أن تدعمه وترفده بخبرتها دون قيد أو شرط. فالجناح العسكري مكمل، بل وخاضع للجناح الثوري وليس بديلا عنه، لأن الثوار لا العسكريين هم أصل الثورة وهم حاضنتها، وهذا ما أكده السيد العقيد عبد الجبار العكيدي رئيس المجلس الثوري العسكري في حلب.

والحقيقة أن اللاعبين الدوليين الأساسيين المتنفذين في سوريا الآن هما الولايات المتحدة وفرنسا، وهذا طبيعي لأن فرنسا هي صاحبة النفوذ التاريخي في سوريا وهي التي هندست ما آلت إليه الأمور في ما بعد الاستقلال المزعوم. أما الولايات المتحدة، فهي القوة التي ملأت الفراغ في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وهي صاحبة النفوذ الأقوى إن لم يكن الأوحد في المنطقة في الوقت الراهن. وكلتاهما يتأبط شرا بالثورة أكثر من أي طرف آخر من خلال عملائهما ورجالاتهما من عرب ومن عجم. وآخر تلك المؤامرات المريبة هو المقترح الفرنسي - الأميركي حول تشكيل حكومة مؤقتة الآن من المعارضة السورية وتعهدهما بالاعتراف بها عند تشكيلها، طبعا إن شُكلت. لأنه ما ظنكم بمعارضة تتنازع على المجالس أن تفعل عندما يكون الأمر متعلقا بحكومة؟ الولايات المتحدة وفرنسا تعملان حالة التنازع هذه وهما تريدان أن تزيدا فيها. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم تعترف فرنسا والولايات المتحدة بالمجلس الوطني السوري عندما كان في أوج شعبيته الثورية مع العلم بأنهما ممن شجع على إنشائه؟ ثم ماذا قدمت هاتين القوتين من دعم حقيقي للثورة السورية؟

وبغض الطرف عن تنازع المعارضة السياسية وعن هدف الدعوة الأميركية - الفرنسية في إيقاع المزيد من الشقاق بينها، فإن الحكومة المؤقتة هي مطلب مهم للثورة السورية في المستقبل القريب ولكن بدماء جديدة، لأنه ليس من مصلحة السوريين ولو بعد حين الانتقال بعد إسقاط النظام إلى الفوضى العارمة، بل إلى التئام الجراح وإعادة الإعمار.

إن ما يجري الآن في سوريا هو صراع جديد عليها بالتأكيد، لكن ليس بين أطراف دولية وإقليمية وعربية تتنازع النفوذ فيها والهيمنة عليها، بل هو في الحقيقة صراع بين السوريين الجدد حاملي فلسفة «الموت ولا المذلة» وبين تلك الأطراف مجتمعة. وهذا النوع من الصراع أخطر بكثير من ذلك الصراع الذي عانت منه سوريا في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي؛ حيث ابتليت سوريا وقتها بأسوأ سياسيين وقياديين عرفهم التاريخ، فهم من سلم أمنها وأمن شعبها وخيراتها إلى أعدائها تحت راية القومية والاشتراكية. إن القوى الإقليمية والدولية المتناحرة يمكن أن تتلاقى بعد صراع مديد على كلمة سواء فيما بينها حول الغنيمة والنفوذ. لكن هذا الصراع الجديد لا تسوية فيه ولا مساومة، ولا ينفع معه إلا كسر العظم، خصوصا أن الشعوب قد تغيرت واعتبرت، ولم تعد تنطلي عليها المؤامرات ولا مكر الماكرين. في هذه الظروف، علم الشعب السوري بأن مشكلته لم تكن أبدا إعلامية وإنما هي سياسية. وسواء أوَصل صوت ألمه ومشهد تدفق دمه أم لم يصل، فالاستجابة الدولية واحدة.

* أكاديمي في «مركز الدراسات السورية» بجامعة سانت آندروز البريطانية