عن غابة في إسبانيا وغروبها

TT

عثرت في بعض إسبانيا على ما أحب: قرية صغيرة وغابة وسيعة وغنية، فيها طريق بري للمشاة، وعلى مدخل الغابة وجدت جذعا نحيلا يشبه عصاة غير مصقولة، فصرت أحمله كل مساء ثم أعيده إلى مكانه لليوم التالي، ولا شيء يخشى في هذه الغابة الساكنة، إلا كلب يعرف الغرباء شما، فلا بد من نهره، وعدا ذلك فالرفاق المشاة قلائل عند الغروب: جدة مع حفيدها أو شاب يعدو للتدريب، أو أم لا تملك أن تأخذ أولادها في نزهة إلا إلى هذه الخضرة المجانية، لا تسعيرة لمشهد الطيور وهي تأوي مبكرة إلى الأغصان، وأجنحتها ترفرف بهدوء، تمجيدا لموزع النعم على البشر والطيور والأمهات اللاتي ليس ما لديهن لأطفالهن سوى هذه الغابة. كم ستكون ذكرياتهم عارمة بالجمال، عندما يكبرون.

وهنا، على جانبي الطريق البري الضيق، الذي مهدته وطأة الأقدام عبر السنين، ألحظ عليقة مثمرة بحبوب حمراء صغيرة مثل بذر الورود، إنها البهار، الذي يرشه الإسبان على جميع الصحون، وهو هنا لمن يقطف، يغطي الطريق البري عن الجانبين ويتمدد ويظلل، ولا بد أن تدفعه بيديك (بلطف طبعا) لكي تمر.

ذهبت أوروبا إلى الحروب من أجل البهارات والأفاوية، وذهب فاسكو دي غاما يدور حول رأس الرجاء الصالح لكي يجد طريقا إلى الأطايب «لا يكون تحت سيطرة المسلمين»، وفي رحلاته بلغ الصين واستعمر مكاو، التي صارت فيما بعد مقمرة وحشيشا، ولا تزال. تمدد الاستعمار الغربي، وهو يبحث عن الكمون وجوز الطيب، هذا ما أعرفه من التاريخ، أما عن الخصائص فيرجى مراجعة الزميل والجار العزيز عماد الدين أديب، ولمن لا يعرف - أو لم يحزر بعد – فهو «شيف» ماهر، ومن حسن حظ «الشيف رمزي» أن أبا محمد يعيش من الكتابة لا من فن الطهي، وإلا الويل، وكلما تحدث عماد عن «الشيف رمزي» قال: «زميلي»، ثم ينتبه ويصحح: «صديقي».

وضعت لنفسي في الغابة الإسبانية أصدقاء الغروب، يلقون عليّ التحية التي تحدرت إليهم من العرب «أولا» أو «هلا»، وأنا أبحث في الغابة عن طفولتي، ولا أعرف عما يبحثون، أما الأطفال مع أمهاتهم فيزرعون ذكرياتهم هناك، إلى يوم في مثل هذا الغروب.