لماذا تذكر الجميع السنهوري؟

TT

عادت سيرة الاعتداء الذي وقع على شيخ القانونيين المصريين عبد الرزاق السنهوري في مكتبه عندما كان يرأس مجلس الدولة عام 1954، إلى السطح في الأزمة التي حدثت وأدت إلى مواجهة بين القضاء ومؤسسة الرئاسة حينما جرت محاولة إقصاء النائب العام من منصبه بقرار رئاسي بما يخالف القانون ومبدأ الفصل بين السلطات المفترض أنه أساس أي نظام جمهوري.

النائب العام استعاد سيرة السنهوري في معرض تمسكه بحصانته ضد العزل وضد التحذيرات من أنه قد يتعرض لاعتداءات من قبل المتظاهرين مثل ما حدث مع السنهوري عندما أخرجه المتظاهرون من مكتبه بالقوة، وكانت البلاد في حالة ثورية وقتها، واعتدوا عليه بدنيا، وقال النائب العام عبد المجيد محمود إنه شرف له أن يكون في منزلة السنهوري.

وهو محق في ذلك، فالسنهوري الذي وقف مع «ثورة يوليو» في سنواتها الأولى ثم اختلف مع قوانينها في 1954، لا يزال بعد عقود من وفاته يعد مرجعا قانونيا محترما وتدرس مؤلفاته، ووضع دساتير وقوانين دول عربية بعد ذلك، بينما تبرأ الجميع مما حدث، ولا يتذكر التاريخ شخوص من قاموا بالاعتداء، وكرمته الدولة المصرية في عام 1970.

قد يكون بين ما حدث في 1954 وأكتوبر (تشرين الأول) 2012 فارق في التفاصيل والظروف وحجم الشخصيات في التاريخ، لكن المشهد العام فيه قدر كبير مقلق من التشابه، وهو صراع بين سلطة تنفيذية عينها على الشعبية وعلى تمرير إرادتها بشكل سريع، وقضاء له تقاليد وقوانين وطريقة تعتمد على الأدلة ومرافعات المحامين وتستغرق وقتا قبل الوصول إلى أحكام، وهي في أحيان كثيرة قد لا ترضي المنظور الشعبي في لحظة معينة للعدالة.

لقد ابتدع مبدأ الفصل السلطات الثلاث الرئيسية في الأنظمة الجمهورية وهي: التنفيذية (الرئاسة والحكومة)، والتشريعية (البرلمان)، والقضائية، حتى لا تجور سلطة على أخرى، ويكون هناك توازن بين المؤسسات الرئيسية للدولة وعملية رقابة وحساب، وهو مبدأ مطبق بقوة في كل الديمقراطيات الراسخة؛ ومعظمها غربية، بينما هي في أحيان كثيرة في العالم الثالث نصوص يجري الجور عليها بشكل أو بآخر.

وقد يحدث في بعض اللحظات الملتهبة الثورية في التاريخ أن تكون هناك مطالب شعبية باللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية، وهو ما حدث في كثير من الثورات الكبرى؛ بما في ذلك الفرنسية، ليعود الناس بعدها بسنوات ليكتشفوا خطأ ذلك، لأن الاستثنائي كما يطبق على الغير، يفتح الباب لتطبيقه على صاحبه في لحظة أخرى، ومثال على ذلك الثورة الفرنسية؛ فهي كما ارتبط اسمها بأنها أول من رسخ مفهوم المواطنة والعدالة، والحرية، فإنها أيضا تذكر بالمقاصل والرؤوس المتدحرجة ومصطلح «إرهاب الخصوم».

وفي الأزمة أو المواجهة التي شهدتها الساحة السياسية في مصر، تبدو ملابسات القرار الرئاسي غير واضحة رغم المعرفة بأن النائب العام ورجال القضاء محصنون تجاه السلطة التنفيذية، وهناك خطأ حدث يمكن أن يفسر بأوجه مختلفة، لكن في النهاية، يسجل للرئيس المصري أنه لم يكابر وتراجع عن قراره، كما يسجل للقضاء المصري وقوفه بشكل قوي للدفاع عن استقلاليته. وفي الحقيقة، فإنه يسجل للمرحلتين اللتين مرت بهما مصر بعد «25 يناير» سواء في فترة حكم المجلس العسكري، أو بعد الانتخابات الرئاسية التي جاءت برئيس من جماعة «الإخوان»، عدم اللجوء إلى المحاكم الاستثنائية، ووقوف معظم القوى السياسية ضد إحالة المدنيين إلى محاكم عسكرية.

ليس مهما الأشخاص، المهم هو المبدأ والحفاظ عليه، إذا كان الجميع حريصين على أن تكون الجمهورية الثانية جمهورية تحترم القانون، فهذا هو ما سيبقى للمستقبل والأجيال المقبلة، وهكذا تكون الدول الحديثة التي تريد أن يحترمها العالم، أما تطبيق القانون بمظاهرة أو اقتحام مبنى، فلن يقود إلا إلى الفوضى.