ثوار وثورات كثيرة!

TT

أصبحت المنطقة العربية شبيهة بحالة أوروبا في القرن التاسع عشر، حينما أنتجت الأفكار الليبرالية والاشتراكية والفوضوية والشيوعية جماعات متمردة على النظم القائمة من ملكيات وعروش كانت لها شرعيتها التاريخية وعلاقاتها القلقة مع الكنيسة، لكنها ربما لحسن الحظ كانت لها علاقة مستقرة مع العلم والجديد من الفنون والآداب. كان هناك أدب كثيف حول حالة الدولة المطلوبة، وربما كانت أفكار فولتير عن الحرية، وروسو عن العقد الاجتماعي، ولوك عن الدولة المدنية، ومونتسكيو عن القانون والفصل بين السلطات، حتى جاء هيغل ممجدا للدولة، وماركس داعيا لإقامتها من جديد؛ كل ذلك وغيره كان يجري استيعابه وهضمه من قبل أجيال جديدة ذهب بعضها إلى الثورة والتمرد بأشكال مختلفة، بينما ذهب البعض الآخر إلى الإصلاح واستغلال نتائج الثورة الصناعية في تغيير المجتمعات.

المنطقة العربية عرفت ثورات من أجل الاستقلال، وعرف بعضها أن الاستقلال مجرد مقدمة لإقامة الدولة على أسس جديدة، ولكن التراث الفكري الذي قام عليه كل ذلك كان هو نفس التراث الأوروبي للدولة القومية، بما فيه الخروج من الإمبراطورية، ووضع انتماء الحكم والكنيسة في عالمين مختلفين، ووضع «المواطنة» أساسا لعلاقات الحكم والمجتمع. ولكن كل ذلك لم يستمر طويلا، وبعد أن خرج الجميع من العباءة العثمانية، ومن بعدها الاحتلال الغربي، فإن سيطرة الدولة والحكم وأحيانا فرد واحد باتت هي القاعدة التي تحداها تعقد المجتمعات، وامتداد البيروقراطية، والظهور الكثيف للعولمة.

الثورات العربية التي جاءت تحت اسم «الربيع العربي» جاءت كلها بلا تراث فكري معروف، بينما نجد أن التراث الأوروبي كان معروفا بين ثوار الاستقلال، بل إن هؤلاء أنفسهم قاموا بالتأليف والشرح في نفس الاتجاه، ونجح بعضهم في التوفيق بين الفكر المستورد والواقع المحلي المشبع بالثقافة الإسلامية في وضع القوانين؛ كل ذلك كان حادثا، ولكن الثابت بين ثوار العرب الجدد أن معرفتهم محدودة بهذا التراث. ربما كانت المعرفة أكبر بالجوانب الحركية للمثل العليا المتعلقة بحقوق الإنسان، مع بعض العناوين التي جرى التماس معها في فكر الثورات التي جرت في أوروبا الشرقية، ولكن كل ذلك لم يكن كافيا لوضع شكل ومقام للدولة العربية الجديدة.

وكانت المفاجأة أنه بعد الربيع جرت المناقشات والحوارات في الشوارع والميادين وشاشات التلفزيون كما كانت تجري داخل النخبة العربية السابقة. فظل الأستاذ فهمي هويدي على حاله بقدر ما حدث للأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي، وكأنه لا ثورة جرت، ولا حكم تغير، ولا مجتمع انتفض، فما عاد إلى ما كان عليه، ولا ذهب إلى مكان يصبو إليه. باختصار لم يكن هناك تيار فكري عارم كانت له مقدماته قبل الثورات، ثم جرى تبنيه بعدها، ولم يكن هناك لا لينين ولا ماو ولا الخميني ولا ليش فاونسا. لم تعد الثورة جيشا يتحرك له الأعلام وبيارق تحت قيادة فكرية وسياسية من نوع أو آخر، وإنما صارت نوعا من السوق الثورية التي تعرض فيها قوى كثيرة بضاعتها التي يختلط فيها الحاضر مع الماضي، وبعضا من المستقبل من باب تزيين الصورة وتلميعها. وليس صدفة أن تاريخ الثورات هو الاتجاه نحو قصور الحكم للإطاحة بالقادة ووضع الزعماء الجدد مكانهم، ولكن في حالتنا فإن مكان الثورة كان في الميادين الفسيحة التي توجد فيها منصات تمثل كل منها جماعة كما يليق بالسوق الثورية المحترمة.

ولذلك ليس صدفة إطلاقا أنه لم يخرج من ميدان التحرير أفكار كافية لوضع دستور البلاد، بل إنه كان المساحة الكافية لتنافس أفكار وبضائع تقليدية تناسب وضع الميدان باعتباره سوقا ثورية. وربما لم يكن هناك مصادفة أن توجد حركة 6 أبريل جنبا إلى جنب مع حركات الاشتراكيين الثوريين، وعلى بعد خطوة منهما توجد كل أشكال السلفيات الثورية الجهادية الجديدة والقديمة، والمعبرة عن أفراد، مثل السيد حازم صلاح أبو إسماعيل أو جماعات تقليدية وحديثة، وبعضها له تاريخ «دعوي»، والآخر له ماض مسلح مصبوغ بالدماء. وبين كل ذلك، وحول كل ذلك، توجد جماعة الإخوان المسلمين التي يحتار عالم الاجتماع السياسي في اعتبارها من قوى المحافظة أو الثورة، أو أنها من قوى الماضي أو الحاضر، حتى ولو كان لها مشروع للنهضة في المستقبل.

الصورة المعقدة في مصر لها صورها المختلفة في عواصم أخرى، وكذلك الأزمات والمآزق التي يعيشها الجميع في مواجهة الحالة الأمنية الصعبة، أو الأوضاع الاقتصادية المهينة، أو الحيرة الدائمة في صنع الدساتير، أو التخبط في التعامل مع «العدالة» حيث يريد البعض حكم القانون، بينما يريد البعض الآخر إقامة المحاكم الاستثنائية التي تليق بثورات فوارة بالغضب ليس فقط على الماضي، وإنما أيضا على حاضر لا يعرف أحد كيف يخرج منه إلى جهة معلومة. آخر القصص في الحالة المصرية كان الحكم بالبراءة للمتهمين في واقعة الجمل، ولكنها لم تكن القصة الوحيدة، فقد سبقها قصص أخرى كثرت فيها البراءة على الإدانة، لأن القانون يحكم بالوقائع والبراهين والأسانيد والدلائل.

هل يتخلى الثوار عن القانون، أم يقيمون قوانين جديدة، ولكن إقامة القانون الجديد تستدعي وجود السلطة التشريعية المعطلة الحضور، لأنه لم يوجد توافق بعد على شكل ومضمون الدستور. وظل الدستور غائبا، ليس فقط لأن الثوار كثر، ولهم وجهات نظر متباينة، ولكن لأنه لا توجد فكرة أو نظرية شائعة أو متأصلة تشكل إلهاما أو رؤية. ومن العجب أن باب الاجتهاد ظل غائبا عن الساحة، فلا أحد قرأ ماهية النظام القديم، ولا ما جرى منذ نشوب الثورات حتى الآن، ولا حدث نوع من النقد الذاتي البناء الذي يعني نتائج جديدة. فعلى سبيل المثال، هناك نقد في مصر لخروج الثوار من ميدان التحرير بعد سقوط مبارك، وهناك نقد لوجود حكومة الفريق أحمد شفيق، بل إن هناك نقدا لوجود «حكومة الثورة» بقيادة عصام شرف، ومن بعده حكومة الجنزوري، بل وحتى للحكومة الحالية بقيادة الدكتور هشام قنديل لأن الثوار اكتشفوا أن الجميع غير قادرين على إيجاد طريق آخر غير ما كان معروفا في عهد الحكم السابق على الثورة.

والنقد بهذه الطريقة مشروع، ولكن الغائب عنه هو أنه لا يتضمن وجه الاختلاف المطلوب، ليس في تفاصيل تشكيل لجنة الدستور، أو الإفراج عن معتقلين من نوع أو آخر، وإنما الاختلاف في الرؤية والاتجاه ونوعية البشر والمهارات المطلوبة. والعجيب أن من كانت لديهم الشجاعة للنقد تجاهلوا أو تناسوا في مصر أن البلد كله من أوله إلى آخره قد أصبح محكوما بجماعة الإخوان المسلمين الفائزين في الانتخابات الرئاسية، وبالأكثرية في مجلس الشعب المنحل، ومجلس الشورى الباقي!