قفزة فيليكس.. والمخيال العربي

TT

أربع نسوة من الطبقة «المتعلمة» كن يتابعن بشغف محموم قفزة المغامر فيليكس باومغارتنر يوم الأحد الماضي الحدث الأكثر إثارة، كلهن تقريبا يحملن درجة الدراسات العليا من جامعات محلية وخارجية في تخصصات مختلفة من الأحياء، للإدارة، للفنون، لكن اللافت في حديثهن ذلك الجهل التام بأي تصور، ولو مبسط لقفزة فيليكس من الناحية العلمية، فقط كان الباعث على المتابعة هو ملاحقة «المغامرات» ذات الطابع الجماهيري المعولم، إحداهن طرحت سؤالا بهدف الاستعراض لحاستها النقدية التي لا تمرر للغرب الذي تعرفه، كيف يمكن أن يتخطى فيليكس حاجز الصوت، وهو يتحدث مع المنصة تحت بالهاتف!

طبعا هذه ليست نكتة وربما الصحف العربية دون غيرها أغرقتنا خلال اليومين الماضيين إضافة إلى منصات الإعلام الجديد «تويتر» ورفاقه بتحقيقات وتعليقات ساخرة، لا بد من الاعتراف أن حس النكتة في عالمنا العربي في أفضل حالاته ولا يعكس الحالة السياسية، إلا إذا اعتبرنا أن هذه الروح المرحة التي سالت بسخاء هي جزء من أزمة جلد الذات بطريقة معكوسة تحمل في طياتها مضامين ورسائل ثقافية وسياسية مما يدخل ضمن تصنيف المخيال.

المخيال بحسب جاك لاكان، رائد التحليل النفسي الفرنسي، هو رؤية مجتمعية لشعب ما أثناء تفاعله مع محيطه القريب والبعيد، بمعنى آخر الإطار الجماعي الذي يؤسس لخطاب مجتمع ما تجاه قضية ما.

هنا المخيال العربي فيما يخص قفزة فيليكس كان محملا بدلالات عميقة تعكس حالة «التردي»، لو شئنا التلطف بين الحالة العلمية التي وصلنا إليها مقارنة بالسياق الذي أنتج فيليكس المغامر، الذي لم يكن أحد أبطال أفلام الخيال، وإنما نتاج سنوات من التحليل والرصد والمتابعة كان من القدر الجميل أن تصادف إعادة إنتاج إعلامية عبر سلاح الـ«ميديا» والإعلان ذي الحدين، فهو في كثير من الأحيان ينزع إلى تبخيس قيم الأشياء من خلال «تسليعها» وتحول إلى سلع تجارية، وهو ما كان طاغيا على الحدث في التناول العربي حيث تعليقات ساخرة من قبل المذيع يقرأها من الإعلام الجديد في وقت كان المشهد في الأعلى مهيبا وفيليكس يستشعر ضآلته أمام تجربة عملاقة كتلك.

هبط فيليكس بسلام من ارتفاع يزيد قليلا على 39 ألف متر عند حدود الغلاف الجوي للأرض، في سماء نيومكسيكو، جنوب غربي الولايات المتحدة مخترقا لدى هبوطه حاجز الصوت، واستغرق هبوطه نحو ثماني دقائق ليحطم بذلك الرقم القياسي العالمي في السقوط الحر الذي سجله عام 1960 الكولونيل السابق في سلاح الجو الأميركي، جو كتنجر من ارتفاع 31333 مترا من منطاد هيليوم أيضا.

هناك ثلاثة تمثلات من أزمة «المخيال العربي» في التعامل مع حدث فيليكس، يمكن أن تعكس دلالات سياسية واجتماعية تومئ بلسان الحال والمقال إلى مدى الهشاشة التي وصلنا إليها في الانكفاء على الذات وجلدها والكذب عليها، وصولا إلى محاولة استغلال إنجازات الآخرين عبر إعادة إنتاجها.

«أسلمة فيليكس» كان أحد أطرف تلك التمثلات التي تدل على عمق أزمتنا حيث علق عصام العريان القائم بأعمال حزب الحرية والعدالة (الإخوان) في مصر بقوله: كاد فيليكس يسجد عندما وصل إلى الأرض! وبقدر ما يثيره تعليق كهذا من شخص يمثل رمزا في الحاكمين الجدد الآن في مرحلة الربيع العربي من استغراب ودهشة، إلا أنه لا يبعد كثيرا عن قائمة عريضة من التعليقات التي لم تر في فيليكس سوى شخص مَهما فعل لم يؤت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء، وكأن فيليكس ادعى النبوة أو تناول شأنا دينيا مصدره التصديق والإيمان وليس مغامرة علمية لا علاقة لها بأي دوافع دينية وقام بالتحضير لها طيلة خمس سنوات.

العريان والتعليقات ذات المنزع السلفي وجهان لعملة واحدة، الأول يريد أسلمة الحدث العلمي على طريقته، بينما يريد الثاني أن يعيد إنتاجه على قاعدة الإعجاز القرآني الذي سبق الحضارة الغربية.

نقد الحضارة الغربية من خلال تجربة «فيليكس» كان رأي مجموعة أخرى تنزع إلى العلمية في طرحها لتؤسس لمخيال متوهم بعيد الصلة عما آلت إليه العلوم الحديثة، فالبعض تحدث عن نسبية الفيزياء، وأن نيوتن قد تحطم على صخرة فيليكس في حين أن مراجعة بسيطة لمدونات كتبها شباب مراهقون مهتمون بالفيزياء ممن تابعوا الحدث، يمكن القول إن قانون نيوتن للسقوط الحر لم يتعارض مع قفزة فيليكس لأن القوى الخارجية تغيرت وعلى رأسها قوة مقاومة الهواء عدا أن محاولة اختزال القفزة في ثنائية الصراعات التي اعتادها المخيال العربي، على طريقة (ضد ومع) تسطيح للتجربة التي ربما كان إنجازها الأكبر غير كسر حاجز الصوت هو القدرة على إنتاج بذلات بهذه القدرة الفائقة على مقاومة الحرارة الشديدة، مما سيفيد منه رواد الفضاء لاحقا.

الأمر لم يقف عند حدود افتعال شجار وهمي بين نيوتن وفيليكس؛ بل تعداه إلى إنكار التجربة بالكلية، وأنها مستحيلة رغم المشاهد، فهي لا تتجاوز حيلا تلفزيونية أنتجت في أحد معامل هوليوود، والغريب أن هذه الثقة في النفي تأتي في قالب نقد للتفاصيل وهو ما يذكرنا سابقا بالموقف من المنتجات الحديثة من التلفاز والإنترنت والبث الفضائي وما كان ينسج حولها من قصص مؤامراتية.

التمثل الثالث للمخيال العربي هو محاولة استغلال قفزة الفتى الطموح «فيليكس» على طريقة الاستحلاب السياسي، فكل ما يمكن أن تتخيله من نقد للذات وتجريم للواقع المعرفي ومناهج التعليم والطريقة المتبعة في تدريس العلوم الرياضية والفيزياء، قد صبه لصالح غياب تجربة كهذه كانت مبهرة للأبصار بسبب أنها دخلت ضمن نطاق لعبة الـ«ميديا» المضللة في تسويق أي حدث بشكل يجعله كونيا وغير اعتيادي، وربما كان هذا التمثل للمخيال العربي يتكئ على تفاصيل نقدية حقيقية لواقعنا العلمي، إلا أنها تتذرع بأن سبب ذلك هو غياب الحريات السياسية أو حقوق المواطنة.. إلخ، في تعليق شخص منزعج جدا من خدمات شركات الاتصال قال عبر حسابه على «تويتر»: «فيليكس يكلم اللي في الأرض بكل وضوح بينما تتحدث إلى صديقك بالجوال وتنقطع المكالمة!»

بعد ساعتين من متابعة حثيثة قفز فيليكس وانتهى الحدث من شاشات التلفاز، عاد النسوة إلى مسلسل كوري مدبلج بالدارجة الخليجية.. كان حدث فيليكس خارج «المخيال» فاصلا إعلانيا طويلا كسبته ريد بول بجدارة!