مستويات الأمن والخوف في العراق

TT

يعرف الأمن بأنه نقيض الخوف، ولأن الكثيرين يتحدثون عن الأمن في العراق، ويتسابقون برمي الاتهامات على هذا الطرف أو ذاك، فإن الأجدر البحث أولا، عن مستويات الخوف في هذا البلد، قبل الحديث عن الأمن الذي تتواصل انهياراته بصورة شبه يومية.

هناك نظريتان رئيسيتان في العالم، إحداهما تعرف بـ«النظرية الدولية للأمن» وتفرض فيها الدول الكبرى سيطرتها على دول أخرى، ولا تختلف هذه النظرية عن ممارسات الإمبراطوريات القديمة في غزو بلدان وأمم أخرى، أما النظرية الثانية فتعرف بـ«نظرية الأمن الاجتماعي»، وخلاصتها أن الكل في المجتمع يعمل لحماية الكل، وفي حال أردنا تطبيق ذلك على الوضع في العراق، لن نجد أي تطبيق لأي من هاتين النظريتين، ما يؤكد وجود خلل بنيوي خطير وواسع في قضية الأمن في العراق.

طالما أن الأمن نقيض الخوف، كما يعرف علماء النفس والاجتماع مفهوم الأمن، فلا بد من التوقف أولا عند مستويات الخوف في العراق، وهي ثلاثة مستويات:

الأول: هو الخوف الذي يعيشه الخط الأول من كبار المسؤولين في العراق، ويتضح ذلك بجلاء من خلال العزلة التامة التي يفرضها هؤلاء المسؤولون على مقار إقامتهم وعملهم، ابتداء من رئيس مجلس الوزراء وصولا إلى أصغر مسؤول لوحدة إدارية في العراق، وإذا وصف البعض حجم الحراسة التي يحيط المالكي نفسه بها، بنفس حماية الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتعادل عشرة أضعاف حراسة رئيس الوزراء البريطاني، فإن جميع المسؤولين العراقيين يحيطون أنفسهم بحراسات وحمايات كبيرة جدا، ولم يسجل الشارع العراقي زيارات مسؤولين وبرلمانيين وسياسيين للأحياء الشعبية والمناطق السكنية منذ أواخر فبراير (شباط) عام 2010، قبيل الانتخابات التي جرت في السابع من مارس (آذار) من ذلك العام، ما يؤكد حالة الخوف التي تعشعش في دواخل جميع المسؤولين، وفي حال أراد أحد المسؤولين زيارة منطقة ما، وهو أمر نادر جدا، فإن قوات الجيش والشرطة والمخبرين السريين يوجدون في المكان بأعداد كبيرة.

الثاني: منذ هجمات «الأربعاء الدامي في 19 أغسطس (آب) 2009»، التي طالت وزارة الخارجية في المنطقة الخضراء شديدة التحصين، ودوائر حكومية ووزارات أخرى، وحكومة المالكي تتحدث عن القضاء على الإرهاب، إلا أن الهجمات النوعية لم تتوقف على الإطلاق، ودخلت منذ ما يزيد على سنة، عمليات استهداف ضباط التحقيق وكبار المسؤولين الأمنيين والحكوميين بالأسلحة الكاتمة، دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية - التي يزيد عددها على المليون ونصف المليون - من الحد من هذه الهجمات، وتوسعت دائرة الاستهداف لتشمل نقاط التفتيش في قلب بغداد ومناطق العراق الأخرى، ما يترك حالة من الخوف والهلع الشديدين في دواخل ضباط ومنتسبي هذه الأجهزة وكبار المسؤولين الحكوميين. وهذا يمثل أحد أخطر مستويات الخوف في أي بلد، لأن مهمة أجهزة الأمن، تكمن في زرع الخوف بدواخل المناوئين لها. إلا أن الذي يجري في العراق عكس ذلك تماما، فالخوف يسيطر على دواخل ضباط ومنتسبي الأجهزة الأمنية، واتسعت دائرة الهلع لتصيب مقتلا في عوائلهم أيضا، بعد ازدياد الهجمات على منازلهم وسياراتهم الخاصة ومناسباتهم الاجتماعية.

الثالث: في المستوى الثالث، اتسعت دائرة الخوف في العراق لتشمل عامة الشعب، الذين يعيشون تحت خوف مركب، فهناك العصابات وهناك مجاميع مسلحة وفرق موت، وتقف معها في إرهاب الناس الأجهزة الأمنية التي تمارس الاعتقالات وعمليات الدهم وجرجرة الرجال والشباب، وحتى النساء، وتعذيبهم بصور بشعة، وهذا ما تتحدث عنه باستمرار المنظمات الدولية، وفي مقدمتها «هيومان رايتس ووتش»، إضافة إلى شيوع ظاهرة موت المعتقلين تحت التعذيب.

إننا إزاء مجتمع يلفه الخوف الجمعي، ويقف حائلا أمام معالجته فقدان الرمزية المهنية في قيادة الأجهزة الأمنية، واستشراء الفساد بصورة غير مسبوقة لا مثيل لها في أكثر دول العالم تخلفا وفسادا، واعتماد نظرية «إرهاب الناس» بدلا من اعتماد مقولة إن الأمن هيبة قبل كل شيء.

وإذا كان الخوف بهذا الاتساع، ويتوزع على جميع المستويات الحكومية والسياسية والبرلمانية وأجهزة الأمن وعموم أفراد المجتمع في العراق، فإننا إزاء نظرية جديدة للأمن في هذا البلد، مفادها أن الكل يخاف من الكل، دون تلمس أي ملمح لتجاوز هذا الواقع، الذي تزداد فيه آفات الخوف في كل يوم.

وعندما يقول العلماء إن الأمن نقيض الخوف، فهذا يؤكد أن لا أمن في العراق.

* كاتب عراقي