الهوية المغربية ومحدداتها الدستورية

TT

نظمت أكاديمية المملكة المغربية، في الآونة الأخيرة، ندوة تحت عنوان «الهوية المغربية في ضوء محدداتها الدستورية». لقد اعتادت المؤسسة المذكورة تنظيم ندوات تدور حول القضايا الكبرى التي تشغل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلد، فضلا عن المواضيع التي تشغل من الاهتمام الإسلامي والعربي والعالمي حيزا غير يسير. كذلك كانت هناك، قبل عدة سنوات وعقب حادثة الإرهاب الشهيرة التي ذهب ضحيتها عدد من المواطنين المغاربة ومن الأجانب في مدينة الدار البيضاء، ندوة كبرى في موضوع «التطرف ومظاهره في المجتمع المغربي». وندوة الهوية المغربية في علاقتها بالدستور الذي أقره المغاربة في منتصف السنة الماضية تندرج إذن في هذا التقليد الأكاديمي (نسبة إلى الأكاديمية المشار إليها). وقد تجب الإشارة في هذا الصدد إلى أمرين اثنين، أولهما هو أن نشاط أكاديمية المملكة المغربية في السنوات العشر الأخيرة قد قل كثيرا بالنسبة لما كان عليه في السابق، لا بل إنه قد تقلص وتضاءل، مما حمل العديد من المتابعين للشأن الثقافي من المغرب ومن خارج المغرب على طرح الأسئلة وإثارة التكهنات المتنوعة، بل ربما أن هنالك من أبدى قلقا حول عمل المؤسسة العتيدة ومستقبلها. وثاني الأمرين أن الأكاديمية الملكية، فيما يبدو، قد حرصت على وجود فاصل زماني غير قصير بين المصادقة على الدستور الجديد وبين جعله موضوعا لنقاش علمي يتناول تحديدا قضية الهوية المغربية وصورتها في الدستور الجديد.

قبل القول في ندوة الهوية المغربية (المشار إليها - وقد تابعت أشغالها وأسهمت بورقة في موضوعها) يتعين علينا أن نقف، بالتنبيه، على أمر يتصل بالوجود السياسي العربي المعاصر عامة، ويرتبط ارتباطا وثيقا بهذا الذي نقول عنه إنه الانتفاض العربي، فيما درجت جمهرة المفكرين ورجال الإعلام العربي والدولي معا على نعته بالربيع العربي. هذا الأمر هو أن هذه الحركة في العالم العربي - أيا كانت التسمية التي نراها الأنسب في الحديث عنها - قد نقلت قضية الدستور إلى بؤرة الشعور - كما يقول علماء النفس - ليصبح القضية المحورية التي تدور الحركة حولها، أو لنقل ليغدو حديث الدستور والاختيارات الواجب العمل وتسطيرها في صورة مبادئ عليا وكليات يكون الأخذ بها في التشريع وصياغة القوانين. كذلك كان الشأن في تونس، ومن أجل كتابة مسودة دستور ترتضيه مكونات المجتمع السياسي في تونس وتقبله تنظيمات المجتمع المدني الأكثر قوة وحضورا، تم انتخاب الجمعية التأسيسية في تونس، وعنها انبثقت صورة التوافق السياسي الذي تم إقراره بالتصويت العام، وكان التوافق على مكونات الدستور التونسي بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011. وإذا كان تطور الأحداث وطبيعة الصراع السياسي - الاجتماعي في مصر، بعد ثورة 25 يناير من السنة نفسها، قد فرض انتخاب البرلمان أولا ثم رئيس الدولة ثانيا، فإن قضية الدستور الأكثر مناسبة لمصر بعد هذه الثورة تشكل القضية المحورية التي تعطي الانطباع أحيانا كثيرة بأنها قد نقلت كل القضايا (الأمن، الشغل، الفساد المالي والإداري، التطرف أو الغلو الديني....) إن لم يكن إلى الهامش فعلى الأقل هي قد أزاحته قليلا عن بؤرة الشعور وصلب الانشغال السياسي.

أما في المغرب فقد سلك الأمر سبيلا مغايرا كما كان في إمكان المنشغلين بالشأن العربي المعاصر وبحركة الانتفاض العربي؛ فمن جهة أولى بادر الملك محمد السادس، في خطاب شهير أعقب بداية حركة الاحتجاج التي عرفت في المغرب بحركة 20 فبراير (شباط) (نسبة إلى التاريخ الذي كان انطلاقها منه، وهو 25 فبراير 2011)، حيث بادر الملك بإعلان جملة إصلاحات جوهرية تتعلق بتوزيع السلطة التنفيذية وإدارتها وبالسلطات الجديدة، الجديدة والواسعة نسبيا التي تخول لرئيس الحكومة (أصبحت الحكومة بموجب الاقتراح الملكي كيانا منسجما مسؤولا بكيفية تضامنية، لها رئيس يكون على الملك اختياره من الحزب السياسي الذي ينال الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية). ومن جهة ثانية تم تشكيل هيئة عهد إليها بكتابة الدستور الجديد، وكانت المسودة تعرض على الأحزاب السياسية في مختلف أطوار الصياغة، ثم إن المشروع عرض على التصويت العام، فكانت هنالك حملة انتخابية ظهر فيها المؤيدون والمعارضون، وكذا أقلية اختارت المقاطعة وعدم المشاركة، ثم كان هنالك إقرار المشروع دستورا جديدا للمملكة المغربية.

لا شيء أكثر طبيعية، في حياة الأمم والشعوب، أن تعقب الثورات الكبرى وحركات الاحتجاج الشامل والمعارضة التي ترفع شعار التغيير الشامل، الدعوة إلى كتابة عهد أو ميثاق اجتماعي ينظم العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع التي لم تعد في حال من الاستقرار والانسجام، وإنما هي قد دخلت في طور من الرفض والمعارضة: رفض النظام الاجتماعي والسياسي القائم، والمطالبة بإدارة الاختلاف بين مكونات المجتمع على أسس جديدة، وبالتالي الدعوة إلى تعاقد اجتماعي جديد يشرع للسلطة السياسية ونمط امتلاكها، ويرسم أهدافا ويحدد أدوارا ومهام جديدة لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، وربما لهذه الأخيرة خاصة.

الدستور عهد أو تعاقد اجتماعي بين طرفين أو أطراف متعددة في المجتمع الواحد، أطراف يجمع بينها الانتساب إلى الوطن الواحد والاشتراك في الهوية الواحدة (أو ما يعتقد أنه كذلك). وحيث إن الدستور تعاقد اجتماعي وبلورة للعقد الاجتماعي الذي يجمع بين الأطراف المتعددة والمختلفة في صعيد سياسي واحد، فإنه يأتي دوما عقب جدل شديد، بل صراع مرير قد يكون في بعض الأحيان صراعا دمويا، وإلا ما كان تعاقدا، أي اتفاقا، إذ الاتفاق لا يكون إلا بعد خصومة وصراع وخلاف في وجهات النظر في إدارة السلطة وتنظيم العلاقات بين المواطنين من مختلف المكونات الثقافية والإثنية والدينية والاجتماعية. الدستور اتفاق وتراض على بنود وأوفاق معلومة واضحة ومقبولة من الجميع؛ لذلك يقال عن الدستور إنه التعبير عن الإرادة العامة للشعب والترجمة الأمينة عن رغبة الأمة. وفي عبارة أخرى فإن الدستور يجسد الهوية الوطنية، كما يرتضيه الشعب الذي ينتسب إليها، وهو التعبير الأسمى عن الأمة، وهو التجلي الحقوقي الأسمى للدولة التي تضم ذلك الشعب وتلك الأمة بانتسابهما إليه.

في ضوء التدقيقات المقدمة أعلاه، واتصالا بموضوع الندوة التي نظمتها أكاديمية المملكة المغربية، يحق التساؤل: كيف تمثل الهوية المغربية إذن في الدستور المغربي الجديد؟

يصح القول إجمالا إنها تتجلى في تصدير الدستور (ديباجته)، حيث يتم إعلان المقاصد الكبرى وتسطير الموجهات الأساس في مظاهر ثلاثة: أحدها شخصي أو شخصاني (=الهوية الوطنية في عمومها)، والآخر تجليها البشري، والثالث تمظهرها الحقوقي والسياسي.

يقرر الدستور المغربي للهوية المغربية مكونات وروافد. أما المكونات فأربعة: العربية، الإسلامية، الأمازيغية، الصحراوية الحسانية. وأما الروافد فأربعة كذلك، وهي: الأفريقية، الأندلسية، العبرية، المتوسطية. ومن هذه الزاوية يصح القول إن للهوية المغربية - كما تمثل في الدستور المغربي - صفتا التنوع (وهي تتجلى في المكونات)، والغنى (وهذه تنكشف في الروافد: أفريقية، أندلسية، عبرية، متوسطية).

أما إذا نظرنا في الهوية المغربية، في الصورة التي يرسمها لها الدستور المغربي، من جهة تجليها البشري، فنحن نجد تقريرا لجملة مبادئ عليا يتمسك بها الشعب المغربي: الانفتاح، التسامح، الاعتدال، الحوار، التفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.

عن كل هذا ينتج، في المستوى الحقوقي السامي (=مستوى الدولة كاملة السيادة) التزام الدولة المغربية بجملة من المبادئ أخصها منظومة حقوق الإنسان، جعل القوانين الدولية التي توافق عليها المملكة مقدمة، في معرض التشريع، على القوانين الوطنية. ومتى انتبهنا، أخيرا، إلى أن الدستور المغربي ينص على تبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة، وينص في فصل مفرد على أن الإسلام دين الدولة، فنحن نصير إلى بنية قوية متماسكة يستدعي تحققها في الواقع مجاوزة عراقيل وصعوبات من أصناف شتى.