آه يا ضرسي

TT

في ظني القابل للجدل أو حتى التراجع، أنه لن تقوم للمسلمين قائمة في هذا الزمن المتسارع والمحرج بغير التمسك بأهداب ذلك الحديث الشريف والعبقري القائل: «الضرورات تبيح المحظورات».

ونظرا لمحدودية تفقهي بالدين وتمسكي بمقولة: «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه»، (فرملت) قليلا. لهذا ما كان مني إلا أن أتصل بمن هو أعلم مني بمراحل في هذا المجال، ألا وهو الأستاذ نجيب يماني، فصحح لي معلوماتي بأن ذلك ليس حديثا، وإنما هو قاعدة فقهية أصولية، واستند في كلامه إلى الآية الكريمة: «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ»، لهذا أبيح للجائع المنقطع أن يأكل الميتة مثلا، أو من (غص) بالأكل ولم يجد بجانبه غير زق من الخمر فلا بأس من أن يسعف نفسه بجرعة كبيرة منه لكي يسلك حلقه، بل إنه حتى من خاف على نفسه من القتل بأيدي غير المؤمنين أن يتظاهر بالكفر علانية لكي ينقذ حياته، إذا أرغموه على ذلك.

ومع أن الرق، أي العبودية، كان ملازما للتاريخ البشري في كل العقائد بما فيها الإسلام الذي حاول في الواقع أن يحد منه أو يقضي عليه بالكثير من كفارات الذنوب، أقول إنه رغم ذلك فقد استمرت العبودية في بلاد المسلمين أكثر من 1300 سنة، وأذكر أن حاجاً روسياً في أواخر القرن التاسع عشر قد عدّ أكثر من 70 جارية من مختلف الأشكال والألوان كن معروضات للبيع في حوش ملاصق للمسجد النبوي الشريف، كما أن الرحالة (شارل ديديه) أثناء مروره بجدة عام 1854 قال: «شاهدت فتاة زنجية كانت معروضة في متجر في أكثر شوارع البلدة اكتظاظا، وكانت جالسة على مقعد مرتفع عن الأرض ومتسمرة عليه وكأنها تمثال رائع من الأبنوس، تنظر بخوف ووجل لمن يساومون (السمسار) على شرائها، وقد ألقى عليها لسترها قطعة من قماش أبيض يلفها من رأسها إلى قدميها.

وقد فطن الملك فيصل رحمه الله بحسه الإنساني إلى ذلك، لهذا ألغى الرق نهائيا في أوائل الستينات الميلادية من القرن الماضي، متجاوبا مع حقوق الإنسان التي نصت عليها وثيقة هيئة الأمم، والتي أعتبرها أعظم انتصار للحضارة.

ولكي أزيدكم طرافة فإن الرحالة (هارسون)، وهو طبيب قدم إلى مسقط في عام 1919، أحضره أحد المشايخ لكي يخلع له ضرسا يؤلمه، وحيث إنه كان خائفا من الألم والتجربة، فقد أمره أن يبدأ بالتجربة أولا على عبده لكي يتيقن من ذلك، وعندما قال له الطبيب إن العبد أضراسه (صاغ سليم)، ركب رأسه وأصر على أن يخلع، وكلما خلع ضرسا طلب منه الشيخ أن يزيد، إلى أن خلع أربعة أضراس، وكان المسكين خلال ذلك يجأر بالصياح (ويفرفر) من شدة الألم والدماء تغطي وجهه.

وعندما تأكد الشيخ أن الخلع يؤلم فعلا، رفض أن يخلع ضرسه، وذهب الطبيب مصحوبا بالكثير من الشتائم.

ويقال: إن الشيخ حصل له بعد ذلك (INFECTION)، وتكالبت وتطورت عليه المسألة، وما هو إلا أقل من شهر واحد حتى لفظ أنفاسه ودفن مع ضرسه المعطوب - رحمه الله رحمة واسعة -.

[email protected]