هل هو «تأصيل قانوني».. لاستباحة «المقدسات»؟

TT

نشب جدل طويل حول: مَن «المحرك الأصلي» لما عرف بـ«الربيع العربي»؟.. وتركز الجدل حول أسئلة كثيرة منها: هل الغرب - بقيادة أميركا - هو الذي صنع هذا الحراك؟.. ولكن لماذا؟.. هل لإلهاء الأمة عن القضية الأم: قضية فلسطين؟.. هل من أجل «إجهاض نهضة حقيقية»، كانت تتخلق في رحم الزمن الآتي؟.. إلى آخر الأسئلة العديدة.

هذا المقال يُعرِض عن ذلك الجدل كله ابتغاء دفع الأسئلة والمناقشات إلى وجهة أو سياق أوْفَى جدية وموضوعية ومنطقية. ولذا نقول: هل استطاع الغرب أن يكيف ما عرف بـ«الربيع العربي» وفق فلسفته ومفاهيمه ورؤاه المختلفة لكل شيء تقريبا؟

بالتفصيل: هل استطاع أن يكيف تفكير شرائح معينة من ذلك الحراك بمفاهيمه عن:

أ) الحرية

ب) الدين

ج) النظرة إلى المقدسات

ولنبسط القول، ها هنا، في مفهوم المقدسات مثلا، فهذا المفهوم هو قوام هذا المقال. فمنذ قرون ولدى الغرب نزوع جامح إلى إسقاط ما هو «مقدس» في ثقافته وحياته وقوانينه إلخ.. حصل ذلك - ولا يزال يحصل - في سياق نفوره الشديد من الدين، ونزوعه إلى «التحرر» من لوازمه ومقتضياته.

فهل أثر هذا المفهوم الغربي بإزاء المقدسات في تفكير شرائح فكرية، انتظمت في الحراك العربي بل كانت من رموزه؟

قال أحدهم، وهو من القادة لا العامة: «يتعذر تجريم الاعتداء على المقدسات من حيث إنه يصعب تحديد مفهوم المقدس وضبطه. ومن هنا فإن دستورنا المقبل لن يتضمن نصا يجرم الاعتداء على المقدسات»!!

هل هذا القول نتج عن دراسة علمية أثبتت استحالة تحديد «مفهوم المقدس»؟ أم هو مجرد مسارعة في هوى الغرب، والتكيف مع مفهومه تجاه المقدس؟

نستبعد أن تكون هناك دراسة علمية قضت باستحالة تحديد مفهوم للمقدس. فكأي من مفاهيم بدت - في أول الأمر - عصية على الضبط والتحديد، بيد أن البحث الموضوعي النزيه أدى إلى تحديد هذا المفهوم أو ذاك، ولو بقدر نسبي من درجات النضج والوضوح والكمال.

ولئن ظل «مفهوم الإرهاب» - مثلا - حتى الآن مائعا غائما مذبذبا، فليس السبب أنه قد استعصى على التعريف. وإنما السبب هو «الهوى السياسي» لدى قوى كبرى في الإبقاء على مفهوم الإرهاب عائما مائعا غائما بهدف تحقيق أجندة سياسية واستراتيجية في ظل الميوعة والغيم.

وبتعريف ميسر نقول: إن المقدس هو «منظومة العقائد والقيم التي تعظمها أمة من الأمم وتتواطأ على احترامها وعدم استباحتها وتدافع عنها إذا انتهكت».

ولما كان المسلمون أمة من الناس، فإن لهم ذات الحقوق في تعظيم ما يعتقدون أنه عظيم من العقائد والقيم والحرمات والمصادر والشخصيات والأماكن.

1) وأول المقدسات وأعظمها - بإطلاق - عند المسلمين هو «الله» تباركت أسماؤه، وتقدس في علاه: الله ذاتا، والله أسماء وصفات. فهو - سبحانه - مقدس لذاته، ومقدس لأنه مصدر المقدسات الحقة جميعا.

والمضمون الأعظم لـ«التقديس» هو: التنزيه والتطهير، كما جاء في صحيح «لسان العرب». فمن أسماء الله «القدوس».. ولذا قالت الملائكة: «ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك».

ومما يندرج في مفهوم التقديس لله تسبيحه - جل ثناؤه - أي تنزيهه عن كل نقص وعيب مما يتصوره الكفرة والجاهلون. والمضمون الأعظم للتسبيح هو «التنزيه» المطلق لله سبحانه ألف سبحانه.. فبهذا المضمون جاءت لغة العرب.. وبهذا المفهوم تنزل القرآن:

أ) «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم».

ب) «وسبحان الله وما أنا من المشركين».

ج) وهو - سبحانه - منزه عن ظنون الذين يظنون أنه لا يبعث رسلا يتلون على الناس آياته ويزكونهم ويعلمونهم الكتاب والحكمة: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».

د) وهو - سبحانه - منزه عن ظن أولئك الذين يتوهمون أن حصونهم كفيلة بحمايتهم من أقدار الله وإراداته الحاسمة الماضية: «سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ».

هـ) وهو - سبحانه - منزه عن جهل الجاهلين، أولئك الذين يظنون أنه غير قادر على أن يسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى خلال ساعات معدودة «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

2) ومن أعظم مقدسات الإسلام «القرآن العظيم»، الذي هو كلام الله وهداه ورسالته للناس أجمعين، منذ نزوله إلى قيام الساعة:

أ) فهو كتاب من عند الله: «قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض».

ب) وهو كتاب لا ريب فيه: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين».

ج) وهو كتاب محفوظ بحفظ الله له: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».

د) وهو كتاب بلاغ للناس كافة: «هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب».

3) ومن أعظم مقدسات الإسلام نبي الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):

أ) «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين».

ب) «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا».

ج) «وإن تطيعوه تهتدوا».

د) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».

4) ومن أعظم مقدسات الإسلام رسل الله جميعا: إيمانا بهم، وحبا لهم وتوقيرا، واقتداء بهم:

أ) «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله».

ب) «فبهداهم اقتده».

5) ومن أعظم مقدسات الإسلام بيت الله الحرام في مكة المكرمة:

أ) «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا».

ب) «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع والسجود».

ج) «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم».

أبعد هذا الوضوح يقال إن المقدس مفهوم يتعذر تحديده؟.. وهل تعذر تحديد مفهوم الوطنية - مثلا - على الرغم من الاختلاف الواسع حوله؟

إن كانوا صادقين في هذه الدعوى فإننا مستعدون للتعاون معهم في تحديد هذا المفهوم وضبطه - دون غلو ولا ميوعة.. فقد أبدينا استعدادنا من قبل - من خلال هذه الجريدة - للتعاون مع أي جهة في العالم لتحديد مفهوم الإرهاب وضبطه..

ولكن، كما قال أحد المستشرقين المنصفين: «ليست المعضلة هي هل الإسلام صالح للتطبيق في هذا العصر أم لا.. فقد أثبتت الدلائل المنهجية أنه قابل للتطبيق في هذا العصر وغيره.. وإنما المعضلة الكبرى تكمن في السؤال: هل يوجد استعداد إرادي صادق لتطبيق الإسلام أم لا يوجد؟