نوبل السلام للاتحاد الأوروبي.. مهزلة!

TT

قرار اللجنة النرويجية بمنح الاتحاد الأوروبي جائزة نوبل للسلام العالمي، أثار سخرية غير مسبوقة ويعرضها لتهمة مقايضة المبادئ السامية للجائزة بمحاولة إحراز نقاط سياسية رخيصة.

أثار منح الجائزة قبل عامين للرئيس الأميركي باراك أوباما الدهشة لأنه لم ينجز سلاما تاريخيا كسابقه جيمي كارتر مثلا الذي لعب دورا محوريا في السلام التاريخي بين مصر وإسرائيل. وصول أوباما للبيت الأبيض قد يستحق جائزة تقدير كفاح الأقليات مثلا، لكن ليس جائزة سلام. وكسب ثقة الناخب الأميركي كأول رئيس أسود لا يزال كومة رمل قياسا بصروح زعماء كنيلسون مانديلا الذي كان انتصاره من سجنه الانفرادي على العنصرية معجزة تاريخية تقارن مثلا بإنجازات المهاتما غاندي.

منح الجائزة لشخصيات مثيرة للجدل - كزعماء الصراع في آيرلندا، أو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات - أثار احتجاجات من مجموعات السلام السلبي pacifists الرافضين تبرير العنف مهما كان نبل الهدف، ويتحملون تهم الخيانة العظمى لرفضهم التجنيد حتى دفاعا عن الوطن.

تبرير اللجنة بأن قرار من لم يعرف في حياته لغير القتال سبيلا بإلقاء السلاح واعتناق السلام يتطلب شجاعة تستحق الجائزة، أقنع الكثيرين، الذين لم يقتنعوا هذا العام. السبب أنها لم تمنح لشخصية أو لأشخاص تعبيرا عن مساهمة في السلام وغالبا بتضحيات كبيرة أو قدرة الشخصية على إقناع الآخرين بإلقاء السلاح وتوجيههم لتحقيق إنجاز أدى بالفعل لإحلال السلام وإنقاذ الأرواح.. فالجائزة منحت إلى مبنى قبيح الشكل والشأن معا في بروكسل يشمل موظفي المفوضية الأوروبية، مما أثار سخريات أنقصت من القيمة التاريخية التي كانت تجعل المراقبين والمؤرخين يتطلعون إليها لكتابة فصل في تاريخ الإنسانية، سواء في منطقة جغرافية ساخنة، أو على مستوى العالم.

وتتنامى الشكوك بأن الحسابات السياسية الداخلية في النرويج، والإقليمية في أوروبا، كانت وراء القرار المهزلة.. فرئيس اللجنة النرويجي توربيرن ياغلاند ينتمي لتيار سياسي يسعى استراتيجيا لتحقيق الفيدرالية الأوروبية، التي ترفضها أغلبية شعوب أوروبا – باستثناء الألمان وإن كانت الاستطلاعات تشير إلى تناقص نسبة المؤيدين لمشروع الوحدة الأوروبية بينهم.

النرويج ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي (عضو في اتفاقية منطقة التجارة الأوروبية)، وأراد ياغلاند إيصال رسالة لخصومه وللناخب النرويجي بأهمية الاتحاد الأوروبي في حفظ السلام (الرأي العام النرويجي كالبريطاني يفضل مظلة «الناتو» الأمنية).

التيارات السياسية الأوروبية تقارب موقف غالبية ساسة بريطانيا (باستثناء اليسار وثلثي الديمقراطيين الأحرار) في التشكيك في نيات المفوضية الأوروبية غير المنتخبة.

ويبدو أن لجنة الجائزة (وأغلبيتها من اليسار والليبراليين الداعمين لمشروع الفيدرالية الأوروبية) أرادت تأييد الوحدة الأوروبية في وقت اندلاع المظاهرات في اليونان وإسبانيا ضد السياسات الاقتصادية والنقدية لبروكسل.

لجنة الجائزة ادعت أن الاتحاد الأوروبي - وما سبقه European Community أو المجتمع الأوروبي، والسوق الأوروبية المشتركة ECC، واتحاد التجارة، واتفاقية الصلب والفحم، ونادي روما - هو ما ضمن السلام لـ67 عاما بين بلدان قارة أمضت قرونا في الحروب.

وأنا لست المؤرخ الوحيد في بريطانيا، بل ضمن أغلبية معلقين في أوروبا نفسها، الذي أصف تبرير اللجنة النرويجية بمغالطة تاريخية.. فالمسيرة الأوروبية تبلورت بمعاهدة باريس أو اتفاقية أوروبا للصلب والفحم في 1951 - بعد عام من نداء السير ونستون تشرشل في المجلس الأوروبي بضرورة تثبيت التعاون لخلق أرضية من المصالح الاقتصادية المشتركة بين أعداء الحرب العالمية الثانية التي كانت انتهت قبل خمس سنوات فقط.

الحقيقة التاريخية أن القاعدة الصلبة التي حافظت على سلام سبعة عقود في أوروبا استندت تاريخيا إلى عاملين بدعم بريطانيا وسخاء والتزام الولايات المتحدة: العامل الأول انتهاء الحرب الثانية (1939 - 1945) بانتصار الحلفاء في أوروبا بصمود تشرشل وقيادته الحكيمة (والتضحيات الأسطورية لفئة قليلة من طياري السلاح الجوي الملكي) ودهائه السياسي بإقناع أميركا بدخول الحرب تحالفا مع الاتحاد السوفياتي (رغم احتجاجات أغلبية ساسة أميركا).

وذهب الأثر التاريخي أبعد من انتصار قوى الخير والديمقراطية على قوى الشر الشمولية النازية الفاشية.. فسياسة ما بعد الحرب مباشرة، ودعم ألمانيا (ماديا من أميركا بمشروع مارشال) في التحول الديمقراطي أدى إلى إقناع الألمان - الذين حاولوا السيطرة على أوروبا منذ عهد المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك في القرن التاسع عشر - بعدم إشعال حرب عالمية ثالثة للسيطرة على أوروبا (تحاول برلين اليوم السيطرة اقتصاديا بدعم اليورو من «البوندزبانك»).

بعد اندلاع الحرب الباردة، لم يعد الخطر الحقيقي الذي يهدد أوروبا ينحصر جغرافيا في القارة التي هددها تاريخيا الطموح الألماني، بل هدد الخطر البشرية كلها متمثلا في الترسانات النووية واحتمال غزو معسكر حلف وارسو غرب أوروبا بمئات الآلاف من المدرعات والدبابات كالنمل الزاحف، بينما صوبت الصواريخ السوفياتية نحو كل مدن بريطانيا وأوروبا المتورمة سكانيا.

هنا يأتي الدور التاريخي لقيادة مشتركة عبر «الأطلسي» في ثمانينات القرن الماضي بمحور مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في واشنطن.

محور ثاتشر - ريغان قاد تحالف شمال الأطلسي لموقف حازم في وجه حلف وارسو بقرار نشر صواريخ «البيرشنغ» و«الكروز» في بريطانيا وألمانيا الغربية مما منح غرب أوروبا ردعا نوويا مستقلا عن المظلة النووية الأميركية، فكان له أكبر الأثر في تأمين أوروبا من حرب شاملة كاسحة.

النجاح الاقتصادي للنظام الرأسمالي الغربي والارتفاع غير المسبوق في مستوى معيشة الفرد الأوروبي والتأكيد على حكم القانون وقيم الديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الإنسان، أدى لانتصار العالم الحر اقتصاديا ومعنويا وديمقراطيا فسياسيا على المعسكر الشيوعي في الحرب الباردة، والذي تمثل في هدم سور برلين وتساقط نظم حلف وارسو وإفلات شعوبه من قبضة الديكتاتوريات الشمولية فاختارت اللحاق بالديمقراطية الغربية.. فانتصار الحرب العالمية، وزعامة ريغان وثاتشر للغرب، هو ما حفظ السلام في أوروبا وليس البيروقراطية غير المنتخبة المسماة بالاتحاد الأوروبي.. فعندما اندلعت حرب البلقان (بإصرار الأوتوقراطية الصربية على رفض مطالب وتطلعات القوميات المحكومة من بلغراد) لم تحرك مفوضية بروكسل ساكنا، بل كان تحرك لندن وواشنطن، وتدخل حلف شمال الأطلسي في البوسنة ثم كوسوفو، هو ما أسرع بمساعدة الشعوب وتحجيم الأطماع الصربية وإعادة السلام. بل إن الدعم الأميركي – باستراتيجية بريطانية – اقتصاديا وتجاريا لشعوب أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية، هو ما أخذ بيدها نحو البناء الديمقراطي.

ولو قرأت لجنة الجائزة في النرويج التاريخ المعاصر بعناية، وابتعدت عن الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية الأوروبية، لكانت حفظت لجائزة السلام قيمتها بمنحها لمستحقيها الليدي ثاتشر وذكرى الرئيس ريغان.