اللاذقية في وضعية الانتظار

TT

يسيطر هذه الأيام على جميع سكان محافظة اللاذقية سواء من قاطني المدينة أو الريف سؤال واحد وهو: متى تنشب الحرب بين قوات النظام ومسلحي المعارضة في اللاذقية؟ والانتظار يولد إشاعات كثيرة، سرعان ما تتحكم بسلوك الناس فتراهم يزدحمون على البقاليات ومحال بيع المنتجات الغذائية من أجل التموين وتخزين الغذاء، أو يرافقون أبناءهم إلى المدارس مع كثير من النصائح، أو يمكثون في البيوت أمام محطات التلفزيون لتتبع الأخبار. لقد سيطرت الإشاعات أيضا على مجالس سمر الناس، وصارت الموضوع الرئيسي في مكان العمل، وفي الزيارات التي يتبادلها الأقرباء والأصدقاء على قلتها، ولا غرابة أن تجدها حاضرة وبقوة حتى في أكثر الخلوات حميمية. لم يعد نوم الناس طبيعيا ولا طعامهم ولا حركتهم ولا عملهم، الكل في وضعية الانتظار والترقب للحرب القادمة إلى مدينتهم.

ها هو التاجر أبو مفيد يحلف الأيمان الغلاظ لجاره أبو محمد بأنه شاهد بأم عينيه مجموعات مسلحة في الحي الفلاني، بدوره الأستاذ الجامعي عدنان يحلف لبعض زملائه بأنه في الحارة الفلانية حيث يسكن اكتشفت الأجهزة المختصة مخزنا للأسلحة، والسيدة أم هاجر تحلف لزميلاتها في العمل بأنها على حاجز التفتيش الجنوبي قد رأت الجنود وهم يخرجون من طبونة إحدى السيارات مسلحين اثنين. وبطبيعة الحال الإشاعات لا تكتسب مصداقية من دون حلفان الأيمان الغلاظ وهذا يدركه جيدا مروجو الإشاعات وناقلوها وما أكثرهم هذه الأيام في محافظة اللاذقية.

في مواجهة هذه الإشاعات الكثيرة التي تشغل مجتمع اللاذقية ثمة وقائع على الأرض تقول غير ما تقوله الإشاعات، مع أنها في كثير من الحالات تشكل أساسا لها. بداية تبدو مدينة اللاذقية مزدحمة بقاطنيها بعد أن استضافت مئات الآلاف من السوريين المهجرين من حلب وإدلب وحمص وحماه وغيرها من محافظات سوريا، تراهم في الأسواق، وفي الحدائق العامة، وعلى شاطئ البحر، لكن بهيئة لا تخفي علامات الخوف والقلق من تهجير ثان من جراء الحرب المنتظرة في المدينة.

في موازاة ذلك تلاحظ القوات الأمنية والعسكرية الرسمية منتشرة في كل أحياء مدينة اللاذقية وعلى كافة الطرقات المؤدية إليها، وعلى جميع الطرق الرئيسية في الريف، تقوم بأعمال التفتيش للداخلين إلى المدينة، أو المتحركين على طرق الريف، كما تقوم بين الحين والآخر بعمليات مداهمة وتفتيش لبعض الأحياء في المدينة بناء على إشاعة أو تقرير من مخبر.

وبالمناسبة المخبرون في اللاذقية هذه الأيام منتشرون وبكثافة في كل زاوية من زواياها، فكل بائع قهوة على ناصية شارع، أو كل بائع على طبلية، عداك عن الكثير من سائقي التاكسي هم مخبرون إضافيون للمخبرين الرسميين لأجهزة الأمن في كل «مخترة» أو دائرة عمل، أو في كل سوق، أو في كل مقهى أو مطعم أو في أي مكان يمكن أن يتجمع فيه عدد من السوريين. واللافت أن جميع هؤلاء المخبرين مسلحون ببنادق آلية بحيث ينتقلون عند الضرورة في لحظة من وضعية المخبر إلى وضعية المقاتل.

بكلام آخر تبدو جميع أجهزة أمن السلطة مستنفرة إلى أقصى حد، لأن السلطة تخشى حقيقة أن تؤخذ على حين غفلة، كما يفصح عن ذلك مسؤولوها في اللاذقية، مستندين إلى وقائع اقتراب المعارك الدائرة في ريف اللاذقية الشمالي منها، وكذلك في ضوء تحريض بعض الشخصيات والقوى المعارضة على نقل المعارك إليها.

من المعروف أن اللاذقية كانت المدينة الثانية التي انتفضت طلبا للحرية والكرامة وتضامنا مع درعا، إذ بدأت المظاهرات فيها في الخامس والعشرين من مارس (آذار) أي بعد نحو سبعة أيام من انطلاقتها في درعا، ودفعت جراء ذلك ضريبة دم غالية زادت عن الثلاثمائة شهيد خلال وقت قصير نتيجة لوحشية النظام في قمعها. وكان من نتيجة ذلك أيضا خروج آلاف الشباب من مواطنيها إلى الأرياف الشمالية المحاذية للحدود مع تركيا حيث انخرطوا في صفوف قوى المعارضة المسلحة. وهم اليوم في مقدمة هذه القوى التي تخوض معارك شرسة ضد قوات النظام للسيطرة على منفذ كسب الحدودي مع تركيا، إضافة إلى نجاحهم في السيطرة على قمة جبل النبي يونس ذات الأهمية الاستراتيجية لكونها تطل على مدينة صلنفة وعلى مدينة الحفة لجهة الغرب وعلى شمال سهل الغاب حيث شبكة الطرق المؤدية من جنوب سوريا إلى شمالها حيث تدور معارك شرسة بين قوات النظام وقوات المعارضة المسلحة.

ومن المعلوم أن هذه القوات - وأغلبها من مدينة اللاذقية - كانت قد نجحت في وقت سابق من السيطرة على مدينة الحفة لبعض الوقت، وهي تقترب اليوم أكثر فأكثر من مدينة اللاذقية بحيث صارت في بعض المواقع لا تبعد عنها أكثر من عشرين إلى ثلاثين كيلومترا.

إن وصول الصراع المسلح بين قوات النظام وقوات المعارضة المسلحة إلى مشارف اللاذقية له دلالات خطيرة، فرغم أنه مؤشر على انهيار معنويات قوات النظام وتراجعها المستمر، لكنه من جهة ثانية قد يدفع باتجاه نشوب صراع طائفي تكون نتائجه مأساوية على التعايش القائم منذ قرون بين سكان المدينة من مختلف الطوائف والمذاهب، وبين قسم كبير منهم على الأقل وسكان الريف، واستعدادا لذلك تقوم بعض الشخصيات النافذة في المحافظة والمؤيدة للسلطة بإعداد وتدريب وتسليح ميليشيات خاصة بهم وتقوم بنشرها في مناطق قريبة من المدينة، وتدفع بقسم منها إلى جبهات القتال. وفي هذا المناخ المتوتر بدأت تعلو أصوات بعض مناصري النظام كنوع من التهديد، وقد تعني ذلك فعلا، وهي تتفق مع تسريبات من أوساط السلطة ذاتها، بأن أي اقتراب من مدينة اللاذقية أكثر سوف يعني إعلان حرب طائفية من أجل التأسيس لقيام دويلة طائفية في الساحل السوري.

ويبدو لي أن المجالس العسكرية لقوات المعارضة المسلحة في جبل الزاوية وفي جبل الأكراد ومناطق التركمان تعي خطورة ذلك، فأعلنت في بيانات كثيرة عدم نيتها دخول اللاذقية، وأن ما يروج من إشاعات حول ذلك لا أساس له من الصحة. ويعي ذلك أيضا قسم كبير من سكان اللاذقية، لذلك ترى وجهاءهم يعملون ليل نهار على حض الناس على ضبط النفس وعدم الانجرار وراء الإشاعات أو الاستجابة للاستفزازات التي تحصل يوميا من قبل بعض الأطراف المحسوبة على السلطة.