أنا عراقي.. أنا أقرأ

TT

في بحر الظلمات الذي تاه فيه العراق منذ سنوات، هب عليه نسيم رغيد يبشر بشاطئ خصيب. هذا ما شعرت به وأنا أتابع أخبار هذا المهرجان الذي نظمه وقام به نفر من الشباب بعنوان «أنا عراقي.. أنا أقرأ». ولا شك أن العنوان يذكرنا بالقول الشائع: «المصريون يكتبون واللبنانيون ينشرون والعراقيون يقرأون». فالعراق يشكل أروج سوق للكتب كما فهمت من الناشر عبد الوهاب الكيالي. كان يقول لي إنه لا ينظر في أي مخطوطة للنشر قبل أن يتأكد من احتمالات رواجها في العراق.

يظهر أنه بوحي ذلك، أقدم هؤلاء الشباب على تنظيم هذا المهرجان على حدائق شارع أبي نواس. وكانت لفتة حكيمة منهم، فهذا شارع يمقته السلفيون لارتباطه بدنيا الحداثة من مقاه وحانات وكازينوهات ومراقص مختلطة. سمعنا أن المسؤولين أو غير المسؤولين أقدموا في الأسابيع الأخيرة على اقتلاع الأشجار الباسقة فيه ومسح الخضرة من وجهه. وهذا جواب الشبيبة. أكداس من الكتب المعاصرة ومعارض للفنون التشكيلية، رسامون يمارسون مهنتهم في العلن، شعراء ينشدون أشعارهم لمن يسمع، وموسيقيون يعزفون على آلاتهم ألحان العصر وأغاني التراث.

«أنا عراقي، أنا أقرأ» شعار له تاريخ مجيد وعريق. فبين هذين النهرين الخالدين، دجلة والفرات، توصل السومريون إلى ابتداع الأبجدية الصوتية المسمارية التي شاع استعمالها في عموم الشرق الأوسط قبل أن تنتقل فكرتها لعموم العالم القديم. وبها أصبحت اللغة السومرية لغة التعامل بين دول المنطقة، مثل الإنجليزية في أيامنا هذه.

العراقيون حريصون على المعرفة. هناك شتى المنظمات والمراكز الثقافية في لندن. طالما سألني أصحابها عن الجمهور. وكان جوابي دائما: عليكم بالعراقيين. سيملأون قاعاتكم حالما تتواصلون معهم. وبالفعل، حيثما تذهب تجد هذه المراكز تغص بهم وتهرع لسماع محاضراتهم والمشاركة في فعالياتهم. يسألون ويناقشون ويشاغبون ويقاطعون المتكلمين ويضفون في آخر المطاف على المركز الحيوية والنشاط.

«أنا عراقي، أنا أقرأ» شعار يحمل أصداء الروح العقلانية والعلمانية والنزعة الثورية المتأصلة في هذا الشعب. ومن مصباتها تدفقت مدرسة المعتزلة ودولة القرامطة ورسائل إخوان الصفا وكتبت قصائد المجان وشاعت مقالب الظرف العباسي، مثل أبي نواس والجاحظ وابن الرومي وأبي حيان التوحيدي وابن الجوزي... إلخ.

هذا ما يحملني مرارا على التفاؤل لمستقبل العراق رغم كل ما يكتنفه في هذه الأيام من سحب سوداء وما تاه فيه من تخبطات وانقسامات وعراك على الكعكة. وصفوه ببلد الشقاق والنفاق. رد عليهم أبو عثمان الجاحظ فقال:

«أهل العراق أهل نظر وذوو فطنة ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء..,».